*أضـاعُــونـي..
مـِن هـُنـا، ذاتَ مَسـاءْ، تبـْدأ الحـِكـايـة..
قـلـمٌ.. دفـْـتـر وذِكـْريَـات
قـلـمٌ.. دفـْـتـر وذِكـْريَـات
"أضاعُـوني".. سيرة
واقعـيّـة، حدَّ الإيغـال في الغرابة"!.. صرخةٌ تُـؤرِّخ، بأسْـلـُوبِ
السّهْـلِ/ "المُمـتِـع؟"، لتجـربة مُجـازٍ "حَـلمَ" بكبيرِ
الأمَانيّ، قبـْل أن "يصحـوّ" داخل دُكّـان منـْسيّ، خلـْف لافـتـةٍ
خـطـّ عليها "كـاتِـبْ عُـمُـومـيّ"..
*نـُـشِـرت على حلقات في يـوميـّة "المَسـَاءْ" -اْلمَغـْرب
أوراقٌ من سـيـرة مُـجــاز
مُـعَـطـّـل..
كـتبَهَـا: عبد الرزّاق بـوتْـمُـزّار
1- الإجــازة والـْ"عِجــازة..
عندما أنهيتُ مشوار دراستي، الطويلَ، بالحصول على الإجازة، لم أكن كثيرَ التـّفاؤل بما ينتظرني من فـُرَص لولوج ميدان الشغل. ثمةَ قناعةٌ كانت قد ترسّختْ لدى جيلنا بهذا الخصوص وحوّلتـْها إلى شبهِ يقينٍ معاينتـُنا أجيالاً مُتعاقبةً من المُعطَـَّلين، الذين كانت الجامعات تلفظـُهمُ، كل عام، بالآلاف..
شخصياً، كانت لديّ أحلامي وتطلـّعاتي الكبيرةُ، رغم كل المُؤشِّرات، التي كانتْ بِلَون القـَتامة... كنتُ قد طوّرتُ موهبة في الكتابة، اكتشفتـُها ذات منذ نعومة.. أصابع. لهذا كنت أحاول إقناع نفسي بألا أستسلم، بسهولة، لأجواء اليأس والتشاؤم، التي تمكَـّنتْ من جُلّ من جايَلوني وقاسَموني مقاعدَ الدراسة والتحصيل.. تحْصيلٍ سرعان ما سينقلب إلى "حْصْلة" حقيقية فور حصولنا على شهادة الـ"عِجازة"، كما كنّا نـُسمّيها، لكون الكثيرين ممّن نالوها قبـْلَنا صاروا "عاجزين" عن فعل أي شيء في الحياة، عدا التذمّر والتـّشرُّد والإيغال في عوالم الضياع والنسيان، إلى أن ينتهُوا إلى ما يشبه الأطياف، لا يكاد أحد ينتبه أو يهتمّ لوجودهم سوى ذويهم..
إحساس أفراد عائلة مجاز مُعطَّل نحو هذا الأخير كان يتوزّع بين تضامُنٍ -سرعان ما يتحول إلى مُجرّد شفقة- وبين شفقةٍ تنقلب، مع مرور الوقت، إلى رفض لواقع البطالة الدائمة، التي يعيشها ابْنُهم، "خِرّيجُ الجامعة". كانت الأُسَر المغربية تبني على "مستقبل" ابنها، الخرّيج، أحلاماً كبيرة، ما تلبث تتهاوى أمام قسوة الواقع وانحسارات الأفق..
طيلة السنوات الأربع التي أمضيتـُها بين أسوار كلية الآداب، لم أكن أَحضُر إلا محاضرات قليلةً. كان يكفيني أن أمضيَّ ساعة أمام الأستاذ المُحاضِر، لأحكم عليه من خلالها وأصنـِّفَ محاضراته ضمن أولوياتي أو أُخرجَها، إلى الأبد، من دائرة اهتماماتي. كنتُ مهووساً، إلى حد لا يمكن وصفـُه، بقراءة الكتب الأدبية، خصوصاً منها النصوص الروائية لـ"كبار" المُبدِعين. وعلى امتداد سنوات دراستي الثانوية، كانتْ تـُلازمني مذكـّرة صغيرة أسجّل فيها عنوان كلَّ عمل أدبي سمعتُ عن قيمته الفنية ولم أستطعْ -لسبب ما- قراءتـَه.
كانت الخزانة أحدَ الأماكن التي ربطتـْني بها علاقة خاصة، منذ أول يوم لي بين رحاب الجامعة، إلى اليوم الذي غادرتـُها فيه، حاملاً مطبوعاً يُضيف اسمي إلى قائمة العُجازين، عفواً، المُجازين..
2- ميـلادُ كـاتـِب؟!..
ولـّد لديّ عشقي الكبير للمطالعة رغبة في تجريب ذاتي في مجال الكتابة أيضاً، بعد أن ظلَلـْتُ، لسنوات طوال، قارئاً نهِماً يتعذر إشباعُ جوعي المعرفيّ. طورتُ أسلوباً في الكتابة اعترف العديدُ من أساتذتي والمهتمّين بخصوصيته وتفرّده. وكانت القصة القصيرة المجالَ الذي عرفتُ كيف أعبـّر فيه، بشكل أفضل، عن أفكاري وخيالاتي..
ولـّد لديّ عشقي الكبير للمطالعة رغبة في تجريب ذاتي في مجال الكتابة أيضاً، بعد أن ظلَلـْتُ، لسنوات طوال، قارئاً نهِماً يتعذر إشباعُ جوعي المعرفيّ. طورتُ أسلوباً في الكتابة اعترف العديدُ من أساتذتي والمهتمّين بخصوصيته وتفرّده. وكانت القصة القصيرة المجالَ الذي عرفتُ كيف أعبـّر فيه، بشكل أفضل، عن أفكاري وخيالاتي..
يوم فاتح أبريل من العام 1995، وأنا بعدُ في سنتي الجامعية الثانية، عرفتْ أولى نصوصي القصصية طريقـَها إلى النشر. كان يوماً مشهوداً بكل المقاييس.. هل استطاع كاتبٌ ناشئ، ذات يوم، وفي أي مكان من العالم، أن يصف شعورَه، وهو يرى اسمَه لأول مرة على صفحة جريدة أو مجلـّة؟ إذا كان ثمةَ من استطاع فِعْلَ ذلك، فأنا أُقرّ وأعترف: عاجز..
في ذلك اليوم، ابتعتُ ما كانت تسمح به ميزانيتي من أعداد الجريدة ورحتُ أوزّعها على كل من صادفتـُهم في طريقي من أصدقاءَ ومعارفَ، بعد أن أكون قد أُحلَتـُهم، طبعاً، على الصفحة التي وضعتْ اسمي إلى جانب أسماء الكبار..
حملتُ الخبر السارّ إلى والدتي، في محاولة لأنْ أجعلها تفهم، أخيراً، لماذا كنتُ أنزوي في غرفتي وحيداً في أواخر الليالي وأستهلك كل تلك الكميات من القهوة "الكـْحْلة".. غمرتـْني بدعواتها الجميلة. بدا لي وجهها طفولياً، كعادته، رغم تجاعيد السنين، التي بدأتْ ترسم عليه خطوطها. والِدي، عندما زرتـُه في السوق الشعبيّ حيث يشتغل، وبعد أن هنـّأني، طلب مني أن "أقرأ عليه" النصَّ كاملاً. والدي، ذلك الرجل السبعينيّ، بقامته الفارعة وقسوته الظاهرة التي طالما أذاقني منها الكثير، تحوَّل أمامي، في ذلك اليوم، إلى شخص آخر.. كان، في شبابه البعيد، من أولئك الرجال الذين دافعوا عن ربوع الوطن، مشتغلين بفاعلية وفي صمت. عندما كانت أمي تحكي لنا عن كل المرّات التي كان يأتيهما "زوارُ اللـّيل" ليأخذوه إلى سجون بعيدة لا أحد يعلم بها سواهم، أو عندما يلجأ إلى حِيَّلٍ و"مقالبَ" عجيبةٍ ليُفلت من رقابة العملاء والمُخْبِرين، الذين كانوا يترصّدونه عند كل ناصيّة.. كانت تَسْكـُننا نشوةُ الانتساب إلى رَجُل مثله. وكان من جميل الصّـُدَف، أيضاً، أن جريدة حزبه، "العتيد"، هي التي نشرتْ قصّتي الأولى ..
وضع آخرَ لمساته على حذاء الزبون الذي يمدّ رِجله أمامه في ترفـّـُع. "ها قد حصلتُ على ما أقتل به هذا الجوع اللعينَ، ولو إلى حين!" قال في نفسه. رمى إليه الرَّجُل بالدرهم واختفى، دون حتى النظر إليه. تلقـّفَ الدرهمَ وقلبه بين يديه. أشرق وجهه الشاحبُ بابتسامة خاطفة. وضع الدرهمَ داخل جيبه الوحيد غير المثقوب وهرْولَ في اتجاه مُعيّن... تهالك فوق الكرسيّ الطويل. سحبتْ سيدةٌ أطراف ثوبَها وشدّدتْ قبضة يدها اليسرى على محفظتها، قبل أن تعود إلى آنية الحساء. وعلى اليمين، نظرةٌ ذاتُ معنى تلقـّاهُ بها الجالس. غرق في تساؤلاته: "لماذا كل هذه الاحتياطات الزائدة؟".. انتشلتـْه الرائحة القوية للحريرة من شروده. وقف الخادم أمامه، انتظارَ طلبه. أشار إليه أن يملأ له آنية لكنه تردَّدَ. لا شكّ أن نظرة "المْعلـّمْ" هي السبب. أخرج الدرهم وناوله للمْعلـّمْ، الذي شرع في فحصه والتدقيق فيه، قبل أن يحدج الصغيرَ بنظرة دهشة. كأنّه لا يُصدّق أن يجود مثلـُه بدرهم سليم! وضع العاملُ الآنيّة أمامه وانسحب. عجِب لتأثير تلك القطعة الصغيرة.
3- ماسـِـح الأحـْـذيـّـة..
وضع آخرَ لمساته على حذاء الزبون الذي يمدّ رِجله أمامه في ترفـّـُع. "ها قد حصلتُ على ما أقتل به هذا الجوع اللعينَ، ولو إلى حين!" قال في نفسه. رمى إليه الرَّجُل بالدرهم واختفى، دون حتى النظر إليه. تلقـّفَ الدرهمَ وقلبه بين يديه. أشرق وجهه الشاحبُ بابتسامة خاطفة. وضع الدرهمَ داخل جيبه الوحيد غير المثقوب وهرْولَ في اتجاه مُعيّن... تهالك فوق الكرسيّ الطويل. سحبتْ سيدةٌ أطراف ثوبَها وشدّدتْ قبضة يدها اليسرى على محفظتها، قبل أن تعود إلى آنية الحساء. وعلى اليمين، نظرةٌ ذاتُ معنى تلقـّاهُ بها الجالس. غرق في تساؤلاته: "لماذا كل هذه الاحتياطات الزائدة؟".. انتشلتـْه الرائحة القوية للحريرة من شروده. وقف الخادم أمامه، انتظارَ طلبه. أشار إليه أن يملأ له آنية لكنه تردَّدَ. لا شكّ أن نظرة "المْعلـّمْ" هي السبب. أخرج الدرهم وناوله للمْعلـّمْ، الذي شرع في فحصه والتدقيق فيه، قبل أن يحدج الصغيرَ بنظرة دهشة. كأنّه لا يُصدّق أن يجود مثلـُه بدرهم سليم! وضع العاملُ الآنيّة أمامه وانسحب. عجِب لتأثير تلك القطعة الصغيرة.
كانت الأبخرةُ تتصاعد من الآنية، فأخذ يُحرّكها. تناهى إلى سمعه صوتُ "الحْلايقي"، الغارقِ في سرد عنتريّاته. رفع عينيه صوب الصومعة الشّامخة، يتأملها كعادته. وحين عاد إلى الآنيّة أمامه، وقعت عيناه على وجه جميل لطفلة تجلس قبالتَه، محاطةً بوالديْها. تَعلـّقَ به نظرُ الطفلة، المندهشة التي لكزتـْها أمها، تدعوها إلى احتساء مشروبها. لكنّ نظر الطفلة ما لبث أن عاد يتفرّس في وجه ذلك البائس أمامها. راح يُبادلها النظرات، وقد حلـّقَ به خياله إلى البعيد، عبْر تقاسيم وجهها، الملائكي البريء.. نـَهرت الأمّ طفلتها بشدة، فانتبه من شروده على صوت بكاء الصغيرة وكلمات أمّها المُؤنـِّبة. أعاد عينـَيْه إلى صفحة السائل أمامه. كأنـّه يحاول أن يُتمَّ قراءةَ ما بدأه على صفحة وجهها..
لا يدري كم مرّ عليه من الوقت. لكنه، حين انتبه إلى نفسه، وجد دموعه تنهمر غزيرةً على خدّيْه لتنتهي إلى آنية الحساء، مُحْدثةً عليها دوائرَ صغيرةً. انتفض في مكانه. نظر إلى المقعد حيث كانت تجلس. لم يجدْها هناك. تناول أشياءَه البسيطةَ. غادر كرسيـَّه المُتهالكَ. أطلق تنهيدة عميقةً، وهو يتجرّع مرارتـَه في صمت. حشَر نفسه بين أفواج الناس وابتلعت الساحةُ جسدَه الضئيلَ. طوتْ حكايته بين جوانحها، إلى الأبد..
في شأن بدايات ابتلائي بعشق الحكايا، تـُعيدني لعبة التذكـُّر إلى أيام بعيدة من مراهقتي، الجامحة.. كنتُ تلميذاً في الإعدادي. الرياضيات وما جاورها من المواد العلمية كانت أبغضَ الحصص الدراسية إلى نفسي. أثقلـَها في جداول أزمنة السنوات الطوال، التي قضيتـُها في الإعدادي..
4- مَجـنـُـون الحِـكــاية..
في شأن بدايات ابتلائي بعشق الحكايا، تـُعيدني لعبة التذكـُّر إلى أيام بعيدة من مراهقتي، الجامحة.. كنتُ تلميذاً في الإعدادي. الرياضيات وما جاورها من المواد العلمية كانت أبغضَ الحصص الدراسية إلى نفسي. أثقلـَها في جداول أزمنة السنوات الطوال، التي قضيتـُها في الإعدادي..
أذكر أنـّني، في أحيان كثيرة، كنت أعمَد -لمحاربة جو الرتابة القاتلة في مادة الرياضيات- إلى إخراج بعض القصص الباليّة من محفظتي المهترئة وأَعمَد، في غفلة من الأستاذ، إلى الإبحار، رفقة شخوصها، إلى عوالم السرد، الغرائبية الجميلة. كنتُ قد أقنعتُ نفسي بأنْ لا طائلَ يُرجى من التركيز على حسابات الأستاذ، بجُذورها وكسورها ومعادلاتها، التي كنتُ دوماً، وما أزال، غيرَ قادر على فهْم جدْواها..
أحياناً أخرى، كنتُ ألجأ إلى حلول أكثرَ جرأة. كانت الإعدادية حيث أدرس تتموقع في أقصى حي سكنيّ. خلف أسوارها، كان الفضاء ممتداًّ، خالياً وهادئاً. وبين كـُرهي الرياضيات وجيرانـَها وحبي القصصَ والحكاياتِ، اكتشفتُ لعبة الغياب! وبينما يكون أقراني يتتبـّعون تشابـُكات معادلات وألغازٍ رياضية، كنتُ أنا أنسلّ خلف الجدران وأستغلّ سكينة المكان لأطارد نهاياتِ قصصٍ لا تنتهي..
لم يكن يهُمّني ما يستتـْبعُه ذلك من تقريع، ضربٍ في البيت أو حتى رفض إدارة المؤسسة السماحَ لي بمعاودة حضور الحصص الأخرى، دون إحضار وليّ أمري. وما أدراك ما إحضارُ وليّ الأمر!؟ والدي.. كان آخرُ ما يمكن أن يطلبه منه الواحد منّا هو مرافقتنا إلى الإدارة، خصوصاً إذا كان ذلك من أجل تبرير "جنحة" خطيرة، كالغياب عن فصول الدراسة... كان آخر شيء يمكن أن يتصور حدوثـَه من أحدنا التـّقصير في أداء "واجب" التعلـّـُم! ولأنـّني عاينتُ، مراراً، حصص التعذيب التي تـَعرَّض لها إخوتي على يديْه في حالات كهذه، فقد كان مجردُ تخيـُّلِ جسدي النحيف بين يديه يُصيبني بالدوخة. بفقدان الرغبة في الحياة، على الأقل إلى أن ينتهي كابوس العقاب..
كانت يداه من الخشونة والصلابة إلى درجة أن أيَّ جزء طالتـْه من جسدنا لا يُداويهِ إلا تعاقبُ أيام عديدة.. لكن كل هذا ما كان يزيدني إلا كرهاً لتلك المواد، المُقرفة، وحبّاً في دنيا المحكي وتقاطعاته، الآسِرة.
ستتـّسع دائرة الابتعاد عن حجرات الدرس لتشمل حصصاً أخرى، كالطبيعيات والفيزياء، في سنوات الإعدادي الموالية، عندما قادتـْني قدماي، ذاتَ صدفة بعيدة، إلى عالـَمٍ آخرَ تتقمّص دورَ سارد الحكايا فيه شخوصٌ حيّة، تروي تفاصيل أبطال، غابِرين، بالصوت والصورة..
5- بـاريـزْ، الصّـارُوخْ، الدّكـتـُورْ والآخـَرون..
5- بـاريـزْ، الصّـارُوخْ، الدّكـتـُورْ والآخـَرون..
عندما اكتشفتُ الساحةَ، ذاتَ هروب من إحدى حصص الرياضيات، لم أكن أعرف أنـّني أخطو أولى خطواتي نحو عالم صارخ بالغرابة والتفرّد والابتلاءات. ولم أكن أدري أن ارتيادي المكان سيُكلـّفني سنواتٍ من عمري، ضائعةً..
بعد جولات بين مختلف الحلقات التي تؤثـّث بشخوصها الغريبة فضاء "جامع لـْفـْنا"، انتهى بي الأمر إلى تفضيل حلقات الرّواة على غيرها. في تلك الثمانينيات الجميلة، كانت الحلقة ما تزال تتوفر من المُقوّمات والشروط على ما يؤهـّلها إلى أن تستحق اسمَها..
أذكر ما آلت إليه الحلقة في أيامنا الرديئة فتخنـُقني غصّاتٌ وغصّات.. شتـّان بين أيام الصّاروخ، الدكتورْ وباريـزْ (الماضي) وما بين الرجال/الشيخات والشّلـْح ولـْعْروبي وقاتـَا، بْريسْلي دي ماروكْ (الحاضر) ..!
كان الصاروخ إذا انتهى من تجميع حلقته، يقف وسطها شامخاً، كالكـُتبيّة من خلفه، صارماً كتفاصيل مَحكيّاته، الفاتنة. لم يكن أحدٌ يجرؤ على مجرد السّعال والصاروخ يتكلم، لأن كل الحاضرين كانوا يعرفون مدى قوته وبأسه إذا "غضب". الصغار؟ كان محظوراً عليهم الاقتراب من دائرة نفوذه..
الدكتور.. عندما يخُطّ على الأرض تَخالـُه عالِماً حقيقيا يفـُكّ معادلاتٍ غرائبيةً. يحسِب، بالدرهم والسـّنتيم، ميزانية المغرب. يُخْبرك كم "يُفترَض أن يتقاضاه المغاربة من دولتهم عند نهاية كل شهر من عائدات الفوسفاط!".. أما إذا صادف مرورُك في الساحة وجود باريز في إحدى حلقاتها، فلا أنصحك بتغيير المحطّة..!
الدكتور.. عندما يخُطّ على الأرض تَخالـُه عالِماً حقيقيا يفـُكّ معادلاتٍ غرائبيةً. يحسِب، بالدرهم والسـّنتيم، ميزانية المغرب. يُخْبرك كم "يُفترَض أن يتقاضاه المغاربة من دولتهم عند نهاية كل شهر من عائدات الفوسفاط!".. أما إذا صادف مرورُك في الساحة وجود باريز في إحدى حلقاتها، فلا أنصحك بتغيير المحطّة..!
كان ذلك أيامَ الحكي الجميل والكلمة الصادقة. أما اليوم، فإنني عندما أضطرّ إلى التوقـّف في المكان، لا أجد أفضلَ من مجموعة غنائيّة اختارت لها، أسلوباً وأداء، ريبرتوار الأغنية الغيوانية، أو بعض المجموعات الأمازيغية التي ما زالت قادرة على تحريك بعض الأوتار في الدواخل. أما الباقي فالأحرى بالمرء أن يتجنـّب إضاعة وقته فيه..
عند نهاية السنة الدراسية وظهور نتائج الموحَّد، التي حكمتْ عليّ بالرسوب، لأنني دون المعدل المطلوب بنسبة ضئيلة جداً، حمدتُ الله كثيراً، في ما بعدُ، لأنني لم أصَبْ، خلال ذلك الصيف الحار، بالجـُنون!.. مع كل استهتاري ولا مبالاتي بقيمة المواد العلمية وبأهميتها، كنتُ، في المقابل، جيّداً في المواد الأخرى، لذلك حصلتُ في مجموع النقط على 11.04، لكنـّني رسبتُ، أتدْرُون لماذا؟ لأن إدارة المؤسسة حدَّدتْ سقفَ 11.05 لضمان النجاح..!
6- عـنـْـدَمـا أضـــاعـُـونِــي -المُـَـرّة الأولـى..
تلك كانتْ أولى صدماتي في مشواري الدراسيّ. لم أستطع أن أستوعب كيف أرسُب ونقطتي فوق المعدَّل! وحتى إذا سلـّمْـنا أنـّني لم أصل إلى النقطة المُحدَّدة من إدارة المؤسسة، فكيف يُعقَل أن يُوجِبَ جزءٌ ضئيل رُسوبي؟ أسئلة كثيرة تلاحقت، حينها، في ذهني، المُشوَّش. لكنّ أحد الإداريّين شرح لي، في ما بعدُ، الحقيقة كاملة. لقد تم التلاعبُ بمصيري من لدُن أستاذ الرياضيات ومدير المؤسسة..
كان هناك خياران لا ثالث لهما: أن أنجح وترْسُب شقيقة الأستاذ، التي كانت تدرُس معي في نفس الفصل أو العكس.. ولأننا في مغرب الأقوياء والمحسوبية، فقد حدث العكسُ الملعُون. مرّتْ أخت الأستاذ إلى الثانوي وبقيتُ أنا مكاني. أُكابد تبعاتِ الصدمة على نفسيتي، الصغيرة. عرفتُ، في ما بعدُ أيضاً، أن أساتذتي استماتوا في الدفاع عن حقي في النجاح، خصوصاً أستاذَي العربية والفرنسية. "لكنْ اللهْ غالبْ"! كما شرح لي أحد الأستاذين، أياماً بعد حادثة "سقوطي"، الغريبة، تلك..
غلبتْ قصّتي على أحداث السنة الدراسية تلك.. تداولتْ حكايتي الألسنُ وحظيتُ بتعاطف كبير.. بعد هدوء العاصفة، حاول محيطي الأسري أن يُفهمـوني ضرورة تجاوز الأمر والتفكير في الموسم القادم. أما أنا فلم أكن أزداد إلا عناداً ورفضاً حجرات الدرس. والدي، عندما لمس فيَّ ذلك العناد، انفرد بي ذات مساء، في سطح المنزل حيث كان يحلو له أن يختليَّ بنفسه. أذكر أني لأول مرة أتحدّاه مباشرة في أحد الأمور المصيرية. عندما استشفّ مدى إصراري على موقفي، حاول إنهاء النقاش، صرخ في وجهي قائلا:
-إذا لم تعد راغباً في الدراسة فاتركـْها، إذن، وسترى ماذا ينتظرك.
مع ذلك، ازداد إصراري على رفض العودة إلى الدراسة في نفس المؤسسة. لم يجد، حينها، إلا أن يلعب آخرَ أوراقه:
مع ذلك، ازداد إصراري على رفض العودة إلى الدراسة في نفس المؤسسة. لم يجد، حينها، إلا أن يلعب آخرَ أوراقه:
-إوا أسيدي ما بقى ليكْ غيرْ تـْخرجْ مْن لْمدرسة وتـْولـّي بْـغـْل يْحرثو عليكْ سْـيادْك!
-إيلا كانْ غيرْ فـْهاديك لـْمدْرسة.. أنا مستاعْـدّ نولـّي حْمارْ ﯖاع ويْحرْثو عليّ!..
لم أعرف كيف تجرّأتُ وقلتُ ذلك. استشاط غضباً والدي. عدّل من جلسته وطردني من خُلـْوته. ولم نعدْ، أبداً، إلى الحديث في الموضوع..
العام الموالي مرّ عليّ طويلاً ومضجراً. توّجتـُه بإخفاقي الثاني في نفس الفصل، ليقرروا، في الأخير، تنقيلي إلى إعدادية أخرى، خوفاً على "مستقبلي الدراسيّ" من الضياع..
7- بِـدايـة ُالنـّجـاح؟..
"المنصور الذهبي" كانت غيرَ إعدادية "عرصة مولاي يوعزة". كنتُ كالمنتقل من السجن إلى الحرية. رغم بُعد المسافة بين منزلنا والإعدادية، أحسستُ بانعتاق كبير. ساعد على ذلك أستاذ للرياضيات، مخالفٌ لكل أولئك "لـْمعقـّدينْ" من أقرانه الذين تركتـُهم هناك خلفي. حتى التلاميذ كانوا أكثرَ شغباً وجرأة. بدل تلك الطاولات الصارمة، حيث كنا نجلس مثـْنى مثنى، كان لكل منا كرسيـُّه الخاص. يقعد عليه أينما شاء. جعلني الأستاذ ضيّاف أتخلى، نسبياً، عن كرهي مادة الأرقام، وإن ظللتُ على "تكـْليختي" المعهودة.. ولأنـّني كنتُ متميزاً في ما عدا الرياضيات من المواد، فقد أصبحتْ لي مكانة خاصةٌ بين الجميع. "صداقات" عديدة وأجواء تساعد على التحصيل والعطاء. لم يعد ضعفي في لغة الحساب عقدة..
كان معظم رفاق الفصل الجُدد "كـُلـْخوزات" حقيقيةً، حتى إنـّني ما زلتُ أذكر يوما انحفر في ذاكرتنا الجماعية، لا نذكره الآن إلا انفجرْنا ضاحكين. بمرور الأيام والفروض، انتبه الأستاذ إلى أن كل أجوبتنا على أسئلته تتشابه حدَّ التطابق. ولم يتأخر في الوقوف على "نقطة الضوء" الوحيدة في حصصه. تلميذ يدعى الناظم. كانت المعادلات الرياضية بالنسبة إليه، كمن يلعب لعبة مُسلـّية.. أثناء أحد الفروض، وما إن دوّن الأستاذ أسئلته على السبورة، حتى التفت إلينا قائلاً:
- لنر الآن كيف ستحْصُـلون على كل تلك الأجوبة الصحيحة والمتشابهة!.. أتحدّاكـُم، جميعاً، أن تحُـلـّوا معادلة واحدة!..
قالها، ثم توجه نحو الناظم واقتاده أمامه ليُجلسه على مكتبه الخاص، بعيدا عن الجميع. أفشل بذلك كل الخُطط التي رسمناها، استعدادا لنقل وتمرير أجوبة الناظم إلى بقية "كلخوزات" الفصل. احتار الجميعُ في أمرهم، وهم يرَون إلى مُنقذهم الوحيد ينتقل للجلوس، بعيداً عنهم، إلى مكتب الأستاذ، فيما الأخير يتنقل، ضاحكاً، بين الصفوف: أتحدّاكم أن تـُجيبوا، مجتمعين، على نصف الأسئلة! لم يَخِبْ ظنـُّه عندما جاءنا، بعد أسبوع، بأوراق أجوبتنا بعد تصحيحها.
عكـْس الناظم، الذي نال 20/18، حقـّقت نقطُ الجميع حدوداً قصوى في التواضع والتردّي.. مع ذلك، كان ذلك الأستاذ "يطلق يديْه" في التنقيط ولا يُعِير كبيرَ اهتمام لتوجيهاتٍ في هذا الشأن ولا كان يحتفظ بنقطه السـّمينة لأخته أو زوجته!..
كم كان النجاح سهلاً خلال ذلك الموسم، الرائع!..
8- إيرِنـْديرا البَريـئة.. رمضـانْ كــريمْ..
في ذلك الموسم الرائع من أواخر الثمانينيات، كان لدينا أستاذ للعربية لا تحتضن مدارسُنا العمومية الكثيرَ من أمثاله. كانت لديه فلسفة خاصة وطريقة مُبدِعة في تلقين لغة الضاد. يُتقن القواعد بشكل غريب ويلعب بالتشبيهات والاستعارات والصور الشعرية. كما مبدع متمرِّسٍ خارجٍ من أحد عصور الأدب، الزاهية!..
لم نتأخر في تصنيف حصته كأفضل الحصص الدراسية على الإطلاق. كان يحبّ الابتكار والابتعاد عن الأساليب التقليدية. لديه برنامج خاص لكل حصة على حِدَة. لذلك لم نكن نُفاجَأ عندما نجده في انتظارنا وجهازُ التسجيل فوق مكتبه بدل كتاب المطالعة، التليد.. أو ممسكاً بين يديه كتاباً أدبيا لا علاقة له بمادة القواعد أو النحو.. مراتٍ كثيرةً جعلَنا نرقص، بتواطؤ وإيعاز منه، على إيقاعات "الرّيغي" أو نستكين إلى مقاعدنا في صمت مُـتطلـِّعٍ إلى قراءات مختارة من أحد الإبداعات الراقية. عندما كان أحدُنا يُلمِّح له إلى إمكانية احتكاكه بإدارة المؤسسة، نتيجة توجـُّهاته واختياراته، يُذكـِّرنا، ضاحكاً، بالمرات الكثيرة التي "سَخْسخَ" فيها سعادةَ المدير في مسرحياته وأعماله التي يبدعها، والتي غالباً ما ذاق حضرةُ المدير صهد سياطها الموجعة، ليُقرر، في الأخير، تركَه وشأنه.. كان الأستاذ حسن شاعرا من طينة خاصة، رجلاً آخرَ من عالم آخر، "ثائراً" في زمن تَناسلَ فيه اللاهثون والمُهرْوِلون..
بحلول رمضان، الذي صادف منتصف العام الدراسي، حضّر لنا مفاجأة لم تكن في حسبان أشدّنا إيغالاً في الخيال. في أول حصة من ذلك الشهر، جلس "بّا حسن" إلى مكتبه وخاطبنا قائلاً:
-على امتداد هذا الشهر، سأتولـّى سردَ فقرات من هذا الكتاب لكم. ستنسَوْن موادّ المُقرَّر.. ولو إلى حين!..
قالها، ثم قام من فوق كرسيّه. وقف مستنداً إلى ظهر المكتب وراح يقرأ من كتاب مترجَم عن الأدب العالمي.
كان الكتاب يحكي عن فتاة صغيرة وبريئة اسمها "إيرنديرا"، تـُشغـّلها جدّتها، المُسنـّة، في جنـْي الشيء الوحيد الذي ما يزال في إمكان الشمطاءَ الحصولُ عليه في الحياة، التي هجرتْ روحَها قبل الجسد: المال! دون أن تقيم وزناً لعذابات الصغيرة أو لنفسيتها المتأزّمة.. إمعاناً من العجوز في الانتقام من جمال وبراءة حفيدتها، تـستغلّ، في حربٍ ما في زمنٍ ما، كبْتَ صفوف متراصَّة من الجنود، المحرومين، للزّجّ بالمسكينة بين أحضانهم، ولو اقتضى الأمر أن يتعاقبوا على جسدها وعلى اغتصاب طفولتها، كلَّ يوم، بالعشرات..
9- الثـّانويّ.. وتخلـّصْـتُ من "لـُغـة" الحِساباتْ..
عندما التحقتُ بالثانوي، كان البعض ممن درسوا معي في الطور الإعدادي على وشك مغادرة الثانوية! كانت بيننا، كفارقٍ، تيْنك السنتان اللتان أضعتـُهما في آخر سنوات الإعدادية. ذكـّرني اللقاء ببعضهم بعقدتي الدفينة. لولا قدَري اللعين، لكنتُ الآن، مثلهم، أتطلـّع إلى المرحلة الجامعية! لكن ذلك لم يـُثـْنِـني عن السير قـُدماً نحو تحقيق هدفي المنشود. كنتُ قد قطعتُ وعدا على نفسي: ألا يوقفني شيء، أبداً، بعد كبوة الإعدادي.. مادة الرياضيات، التي كانت مُتسيِّدةً وكانت تتحكَـم في مصائر التلاميذ، خصوصاً ذوي الميول الأدبية، بحكم مُعاملها الكبير بين المواد الدراسية، أضحتْ بالنسبة إلينا -نحن تلاميذَ شعبة الآداب- ثانويـّة ولا يمكن لنقطتها أن تـُوجِب َالرسوبَ أو النجاح..انفتحت شهيّتي، من جديد، وصرتُ من الأوائل. الغلبةُ الآن للـّغات، بعد أن انضافت الإنجليزية إلى القائمة. ولا يمكن أن أًذكـُر الإنجليزية دون ذكر اسم الأستاذ محمد الجخش. صارماً كان في كل شيء. مع بداية حصصه الأولى، أَفـْهمَنا أن أي خروج عن "القاعدة" في خلال دروسه غير مقبول، بدءاً بالتأخر عن دخول الفصل إلى عدم الانتباه إلى ما يقول، مروراً بالكلام أو الشغب أو غيرهما، طيلة الساعتين اللتين نـُمضيهِما أمامه.
شخصياً، كان لديّ ميل كبير إلى تعلم اللـّغات. ساعدني على ذلك أنّ لي إخوة يكبرونني ويتركون لنا، نحن الصغار، مُخلـَّفاتِهم من الكتب والمقررات. صحيح أنه لم تكن لدينا، يومَها، خزانة بمفهومها الحقيقي، إلا أن الكتب كانت، دوماً، حاضرة في كل مكان من البيت..
وخلال المرحلة الثانوية وما تلاها، جنيتُ تمارَ شغفي الكبير بالمطالعة وأصبحتُ ممن تسابق الكثيرون من زملاء الدراسة على كسب ودّي. استفدتُ الكثير من أساتذةٍ أجلاّءَ أثـّثوا فضاءات مدارسنا العمومية، التي أَرْثي كثيراً لما آلتْ إليه في أيامنا من غـبْن ونـُكوص يُلامسان حدود َالاحتضار.. تحيّةَ تقدير وإجلال لكل رجال التعليم، الذين تـَربَّتْ على أيديهم أجيالٌ متلاحقة من المغاربة! للذين اشتغلوا منهم بتضحيةٍ ونـُكرانِ ذاتٍ ليـُنيروا لنا مُظلمَ الطّرقات ويُزيحوا عن عقولنا الصغيرة أغشيةً من جهلٍ وعار..
كانت كل المُؤشـّرات تسير في اتجاه توقيعي على سنة دراسية متميزة. لكنْ، ومن غير استئذان أو سابقِ إنذار، حصل ما لم يكنْ في الحسبان!..
10- عـنـْدمـا كـاد المـوْتُ يخـْطِـفـُـنـي..
كان الموسم الدراسي بالكادّ قد بدأ ببضعة أسابيع، عندما بدأتْ تصيبني دوخةٌ خفيفة بين الحين والآخر. لم أكن أُعير الأمرَ كبيرَ اهتمام، في البداية. لكنْ صار يصاحب الدوخةَ الخفيفة إحساسٌ بتعب متواصل. كنت أحسّ ركبتيَّ، أحياناً كثيرة، غيرَ قادرتيْن على تحمـُّل جسدي، على نحافته وهُزاله.. ثم تطورت الأمور. صرتُ أسقط أحياناً مغمًى عليّ بعد أن أقطع مساحة قصيرة داخل المنزل، الذي لازمتـُه بعد اشتداد الأزمة عليّ. كنت أنهض من سقطتي وأواصل، متحاملاً على نفسي، إلى أن لم أعدْ أقوى، فلازمتُ الفراش. لا أغادره إلا للضرورة..
أمي، المسكينةُ، لم تفهم ما حلّ بي. كانت تعرف كم كنتُ أكره عيادة الأطباء. حاولتْ أن تـُفاتحَني في الموضوع ذات صباح، بعد عودتها من السوق. وعندما لم تلمس تجاوُبي، وضعتْ ليمونة قرب رأسي وانسحبت في خفة، تـُداري دموعَها. نظرتُ صوب اللـّيمونة ولم تقْـْوَ على تناوُلِها يدي.. كنتُ أعشق الليمون. صار الطعامَ الوحيدَ الذي أتذوقه منذ أيام. لم يعد طعام يستقرّ في أمعائي غيرَ لحظاتٍ يسيرة تهتـزّ، بعدها، معدتي بعنف ويَصْعَد ما فيها نحو فمي. أتجشـّأ كل ما أكلتـُه وما لم آكله بعدُ!..
بعد لحظات من خروجها مُهرولةً من غرفتي، عادت أمي ومعها أحدُ أشقائي وصهرنا. أردتُ أن أحتجّ. أن أعارض. لكنّ الرّجُليْن أسنداني وأخرجاني إلى "عندْ الطـّبيبْ". بدتْ لي المسافة القليلة الفاصلة بين المنزل والمكان حيث أوقفا السيارة أميالاً، لشدّة ضعفي وارتخاء المفاصل مِنّي..
يهمس الطبيب نتيجة كشفه لرفيقيّ، في خُفوت. أدركتُ أن هناك شيئاً ما على غير ما يرام. صدَقتْ تخميناتي عندما أجلساني، برفقٍ زائد، فوق المقعد الخلفيّ للسيارة، التي انطلقت بجـُنـون، تقطع المسافات في غير اتجاه المنزل. الوجهةََ مستشفى ابن زهر، العموميّ. أمضيت هناك شهراً كاملاً وأنابيبُ الدماء و"الصّيروم" تتناوب على ذراعيَّ الاثنتين، وحياتي مُعلَـَّقة بين الحياة والموت..
عندما سألتُ شقيقِي، أياماً بعد زيارة الطبيب، عمّا كان يوشوش لهما الأخيرُ في ذلك اليوم، أخبرَني أنه قال لهما بالحرف الواحد إن الفاصلَ الأقصى بيني وبين الموت، يومَها، كان أربعاً وعشرين ساعة، لا غير!..
11- بين الحَياة والموْت.. خيط ٌرفيـع..
لمدة طويلة، إذنْ، وأنا أَنزِف داخليا دون أن أدري. كان ذلك سبب الضعف الذي راح يستبدُّ بي يوما عن يوم إلى أن أوصلني إلي غرفة الإنعاش. عاش أفراد أسرتي حالةَ استنفار لمواجهة ذلك الطارئ. قدّموا تضحيات كثيرةً لإنقاذ حياتي. كلٌّ ساهم بطريقته الخاصة. إخوتي الأصغر سناًّ ساهموا بدمائهم، قدْرَ المستطاع، حتى يخفّفوا من تكاليف شراء أكياس الدماء الكثيرة التي كانت تحتاجها عروقي الناشفةُ. والدتي، المسكينة، داومت على عيادتي وإحضار ما لذ من الأكلات. أكلات كانت، في غالبها، تنتهي إلى بطون المرضى الذين قاسَموني أَسِرّةَ المرض. لأيام طويلة، لبثتُ مشدودا إلى الأنابيب البلاستيكية التي كانت تضُخُّ الدماء في جسدي المنخور. أقصى أمنياتي كانت أن أتمكّن من ازدراد وجبة مما كان يأتيني.. لازمتْني حالة التقيؤ لمدة طويلة، حتى قبل نقلي إلى المستشفى..
مسلوباً وغيرَ قادر على استيعاب ما يجري حولي، تجسَّد لي الموتُ مراراً! بابتسامة شامتة مقيتة، تربّص بي. قريبا جدا من الانقضاض عليّ وخنقِ أنفاس الحياة في دواخلي.. في تلك الأيام العصيبة، أدركتُ كم هو رفيعٌ ذلك الخيطُ الفاصلُ بين الحياة واللا حياة!..
كنت أخضع، بالموازاة مع عملية التزود بالدماء، لعملية غسل المعدة، لطرد ما تَجمَّع فيها من الدماء الفاسدة طيلة شهور. عملية كانت تتم بوسائلَ تقليديةٍ تُلامِس كثيرا حدود البدائية..
كنت موضوعا لتجربة مريرة.. بعد أزيد من أسبوعين، تمكّنتُ، أخيرا، من مغادرة فراش الموت. سِرتُ بخطواتٍ متثاقلةً بمساعدة أحد المرضى لقضاء حاجة مُلِحّة. أحسسْتُ بسعادة غامرة وأنا أقطع المشوار القصير /الطويلَ، دون أن تتخلى عني ركبتاي! بين نظرات المرضى المشفقة والمشجِّعة، تناولتُ تفاحة من على المنضدة أمامي وقرّرتُ خوضَ غمار امتحان آخرَ عسيرٍ اسمه الأكل! رحتُ أقضم التفاحة، بحذر، وأنا أتحسّب لثورة أمعائي في أي لحظة. عندما أيقنت من استقرار التفاحة في جوفي، دون أن تعاودني رغبة التقيؤ، أجهزتُ على كل الطعام المتوفّر. استلقيتُ، متخما، على السرير. حانتْ منّي التفاتةٌ صوب الباب. رأيت شبحَ الموت يغادر مَخْبأه. أخفى وجهه داخل ردائه الأسود، يداري ملامح الهزيمة.. ترك الغرفةَ مسرعا، في تأفُّف، ليبحث عن شخص غيري يتربّص به الدوائر..
12- عـنـْدما ذهبَ صديقي ليُـقـدّم فيّ التـّعـازي..
تحسنتْ أحوالي بمرور الأيام. بدأتُ أتجرّأ على الابتعاد كل يوم أكثر فأكثر عن الجناح حيث كنت نزيلا. كان طارق، ابن حارس المستشفى العامّ، قد قاسَمَني مقاعدَ الدراسة قبل عام. عندما تناهى إلى علمه أنني أخضع للعلاج داخل المستشفى، داوم على زيارتي، في أوقات الليل المتأخرة، على الخصوص. كان يقيم وأهلَه في مسكن إداري عند مدخل المستشفى. "يحفظ" المكان. رفقتَه، كنت أزور كل مرافق البناية الشاسعة، الممتدّة. جعلني أكتشف مناطقَ مستغلِقةً لا يمكن للمرء حتى أن يتخيل أنها تشكِّل جزءاً من رقعة المكان. مدفوعا بالفضول، كنت أكتفي بالسير خلفه والاستمتاع باكتشاف أسرار وحقائقَ مذهلة. كنا نتسلل إلى أشَدِّ الأماكن استعصاء. دون أن نثير انتباه أحد، كنا نتحرك، مستفيدَيْن من ظلام الليل وقلة المداومين. وحتى عندما يحْدُث ذلك ويَضْبطنا أحدهم في مكان محظور على العامة، فإنه سرعان ما كان يتركنا وشأننا بعد أن يتعرّف على هوية مُرافِقي. مواقفُ طريفة عاينّاها ووقفنا على أمور لم تكن لتخْطُر على بال.. ذات مرة، أخذني إلى إحدى غرف المستشفى النائية، حيث كان أحد الممرضين يختلي بممرضة. كنا نتناوب النظر إليهما من خلال نافذة خلفية ونعاينهما وهما يقومان بأشياء لا تمُتُّ إلى العمل بأي صِلة! ومرة، قادني إلى اكتشاف مذهل، إلى إحدى الزوايا البعيدة، حيث كانت "للا فاطمة" تختلي بنفسها لتُدخّن، بعيدا عن الأعين المتلصصة. كانت سيدةً في أرذل العمر، تشتغل في توزيع الوجبات الغذائية على نزلاء المستشفى. كنا نقتحم خلْوتَها ونراقبها من بعيد، وهي تنفث دخان سيجارتها في انتشاء. كأنها مراهقة في بداية الابتلاءِ كانت تبدو..
على أن أكثرَ ما وقع طرافةً وأنا نزيل المستشفى كان بطلَه صديقي المسكينُ مصطفى. حضر إلى المستشفى لعيادتي بعد علمه بأمر مرضي. سأل عني إحدى الممرضات، بعد أن اهتدى إلى الجناح حيث كنتُ ما أزال في أيامي الأولى، مُوزَّعاً بين الحياة والموت. راح ضحيةَ تَشابُهِ أسماء. صادفتْ زيارتَه لي وفاةُ مريض شاب يبدو أنه كان يُقاسمني، قيدَ حياته، نفسَ الاسم والأوصاف. تَقدَّم مصطفى إلى إحدى الممرضات عند مدخل الجناح وسألها عن مكان وجودي. أخبرتْه الممرضة، وهو يُدلي لها بأوصافي، أن "الشخص الذي تسأل عنه فارق الحياة صباح هذا اليوم، تحديداً"!..
جمد المسكين في مكانه وقد صعقه هولُ المفاجأة. عاد أدراجه، دامعاً. قطع المسافة الفاصلة بين المستشفى وبيتِنا وهو يُكفْكِف دموعه. طرق باب المنزل لتفتح له والدتي الباب وتستقبله بنفس الابتسامة. لم يكن يظهر عليها ما يَنِمّ عن حزن أو كَمَد. لم يسمع بكاء أو ولولة صادريْن من المنزل. وبين ذهوله وحيْرته، أخبرتْه والدتي إنني لست في المنزل وإنها قد زارتني صباح ذلك اليوم في المستشفى ودلّتْه على الجناح ورقم الغرفة. زارني المسكين في اليوم الموالي، وفرحتُه لا توصف، لأنّني كنت ما أزال على قيد الحياة!..
13- لحَـظـاتُ الـتـّـميّــُـز..
بعد شهر كامل، التحقتُ، مجددا، بمقاعد الدراسة. ولأنني كنتُ قد غبتُ عن العديد من حصص الدروس، فقد أَعْفتْني الإدارة من اجتياز امتحانات الدورة الأولى..
باستثناء الإنجليزية، التي كانت الجديد الوحيدَ بالنسبة إلي، لم أشعر أنه قد فاتَني الكثير. أمضيتُ ما تبقى من تلك الدورة وأنا أحاول استدراك ما ضيّعتُ من دروس في لغة شكسبير، على الخصوص. وبفضل بعض كتب التقوية ومثابرتي، سرعان ما أصبحتُ من تلاميذ الأستاذ الجخش المتميِّزين.
عند نهاية الدورة الثانية، حصلتُ على معدَّل عامّ فاجأ الجميع، بمن فيهم أنا! تسيّدتُ الفصل الذي كنت أدرس فيه وحفرتُ اسمي بين الأوائل على صعيد المؤسسة. كان لتلك النتيجة المبهرة وقعٌ خاص عليّ. لقد برهنتُ، لنفسي قبل الجميع، أنني لم أكن أستحقُّ، مطلقاً، كل ذلك الغبن والظلم اللذيْن لحقانِي في فترة الإعدادي، السوداء..
شخصٌ آخر أَذهلتْه نتائجي. أستاذ الرياضيات. لم يصدق الرجل أن أحتلّ موقع الريادة، رغم النقطة الهزيلة التي حصلتُ عليها في مادته. عند التحاقنا بمقاعد الدراسة، بعد عطلة قصيرة، جاءني، ذاتَ صباح، محاوِلاً أن يفهم سر "نقصي" الملحوظ في لغة الأرقام! أذكُر أنه كان متفائلا جدا بشأن جعلي أتجاوز ذلك التأخّر. خصّص حصة كاملة لي وحدي. حاول، جاهدا، أن يُلقِّنني أبجديّات المعادلات الرياضية. كانت لدى الرجل رغبة أكيدة في جعْلي أستفيد من مادته لأضيف مزيدا من التميُّز إلى مساري الدراسي. لكنْ، بعد محاولات ومحاولات، اقتنع أنّ آخر شيء يمكن أن أستوعبه في هذا العالم هو الرياضيات!..
غيّرتِ النتيجة التي حصلتُ عليها في تلك الدورة خارطة التوافقات داخل الفصل وشكّلت القاعدة الأساسية التي انبنتْ عليها علاقتي بالأساتذة وبرفاق الدراسة خلال السنوات الثلاث التي أمضيتُها في ثانوية موسى بن نصير. كما غيّرتْ نظرة الكثير من أفراد أسرتي، الذين كانوا قد صنّفوني، تبعاً لنتائجي المخيِّبة للآمال خلال مرحلة الإعدادية، على أنني شخص لا يصلح لمقاعد الدرس!..
تلك السنة من بداية التسعينيات، شهِدتْ، أيضا، حدثا سياسيا طبع ذاكرتنا الجمعيةَ وترك آثاره في شخصياتنا، وإنْ بأشكال متفاوتة، وشكَّل بداية -أو نهاية- لتوجُّهات السياسة الدولية في تحديد أولوياتها ورسم معالم النظام العالمي، المتوحش، الجديد..
14- حـرْبُ الخليـج الأولـى..
ما إن توسّطَ الموسم الدراسي، في مطلع تلك التسعينيات البعيدة، حتى كان سادةُ القرار في البيت الأبيض، بزعامة بوش -الأب، قد حسموا في أمر التعامل مع المُكنّى، قيدَ حياته، أسد تكريت. كان الأخير قد تجاوز كل الحدود، في نظر صقور السياسة الأمريكية، الذين قرروا الانتقال إلى مرحلة الهجوم العسكري، بعد أن استنفدت القنوات الدبلوماسية كل وسائلها، المشروعة وغير المشروعة، في محاولة السيطرة على الوضع وجعْلِ الرئيس العراقي يتراجع عن مواقفه، التي بدا أنها جريئة ومشاكسة أكثر مما تسمح به "قشّابةُ" ماما أمريكا ورضيعتها إسرائيل، التي "تجرَّأتْ" عليها صواريخ صدام وتجرّأتْ عليها، أكثرَ، تصريحاتُ الساسة العراقيين. وكانت خطابات الصحّاف أبلغَ مثال لها..
وتَفرَّجْنا، وقتها، على الموقف العربي المتخاذل وعاينّا كيف اصطفّ أمراء البترو- دولار في طابور الهَوان وتَملَّقوا أمريكا وفتحوا لترسانتها العسكرية المنافذ، برًّا وجواً وبحراً و.. لحْماً فجّاً دنَّسه الجنود الأمريكان تحت خيامٍ عاهرةٍ نُصبتْ في صحارى العرب، المتخاذلين..
كان هجوما كاسحاً لم تستثنِ فيه عنجهيةُ أمريكا وحلفائها صبيّاً ولا امرأة ولا شيخاً ولا رضيعاً.. كانت الفظائع التي تصل أخبارُها من هناك فوق كل التصورات: قتلٌ، تجويعٌ، حصارٌ واغتصابٌ.. لنساء الفُرات.. لحضارة بابلَ..
وعكسَ موقفِ حُكّامهم، توحّدتْ شعوبُ العرب على الشّجْب والتّنديد. خرجت المظاهرات هادرةً إلى الشوارع وبحَّت الحناجر بالهتافات و"لاءاتِ" الرفض لكل ما تقترفه أمريكا باسم الدفاع عن كرامة دولة "صديقة" قرر صدام -ذاتَ فكرة- أن يُعيدها، كما كانت في "خرائط التاريخ" القديمة، مجردَ "إقليم" تابع لخريطة "بلاده"..
شملت المظاهرات كل القطاعات الحيوية، خصوصا الجامعات والثانويات والمدارس. كنا نصعّد من مظاهراتنا أو نُهدّئ، حسب ما يستجدّ من وقائعَ وأحداثٍ هناك في بلاد الرافدين، التي مرّغتْ أنفَ أمريكا -والحلفاءِ- في التراب، رغم كل ما رصدتْه من إمكانات لم تُسعفها إلا في قتل النساء والعجائز والأطفال وجرّ المزيد من سخط وحَنَق الشعوب العربية، الهادرة..
ولأن الساسة والحكام خافوا أن تنفلت الأمور وتخرج عن السيطرة، فقد كانوا يفعلون ما في وسعهم لكي يحُدّوا من "فعالية" المظاهرات وتطويقها بكل ما أوتوا من قوة ووسائلَ بشريةٍ، على الخصوص.. كانت ثانوية موسى بن نصير، كمثيلاتها، تشهد ما يشبه طوقا أمنيا لصيقا، بل كثيرا ما تدخلت هذه الفرق الأمنية، بمختلف شُعَبها ومُسمَّياتها لتطاردنا و"تقمع" مظاهراتنا داخل أروقة الثانوية. على أننا، في مناسبات كثيرة، كنا لها بالمرصاد. وفي أحيان كثيرة، لم تكن تنفعنا إلا سِيقانُنا، التي نُطْلقها للريح، هرباً من هراوات فرقة "متخصصة" يُلجَأ إليها في حالات الطوارئ، كنا نطلق عليها اسم "الڭـُومْ"..
15- عـنـْدما تحّولـْـنـا إلى "ثـُوار" ِصغـار..
كانت الأجواء على العموم محتقنة، طيلة الهجمة الشرسة التي شنّها الغرب على العراق، بزعامة أمريكا جورج بوش. احتقانٌ في الشارع، في المدارس والثانويات، في الجامعات وفي المعامل. وبقدر ما كان كذلك بسبب سياسات التقتيل في حق أبناء العراق وطفولة العراق، كان هذا الاحتقان يعكس "غضبةَ" الشارع العربيّ على أنظمته، المتخاذلة، التي سارع العديدُ منها، خصوصاً في الخليج، إلى تسهيل مهمة "العُلوج" لإبادة الشعب العراقي، الذي كان عليه أن يدفع من دماء أبنائه وشرف بناته ونسائه ثمن "خطأ" إستراتيجي فادح ارتكبه الرئيس صدام بهجومه على "بلدة" الكويت ومحاولة "احتلالها"..
كان لمظاهراتنا داخل الثانويات "زعماءُ" يقودونها ويُوجِّهون بقية التلاميذ إلى الخطوات التي يتعيّن اتباعها لإظهار تعاطفنا مع أبناء الشّعبَيْن العراقي والفلسطيني، الذين كانوا يتعرّضون لأبشع أنواع التقتيل والترهيب والتجويع. تشرّبنا خلال تلك الفترة -ربما رغما عنا- أولى مبادئ الرفض والثورة ضد واقعنا العربي، المتخاذل. ديستْ أعلام أمريكا وإسرائيل في الثانويات والجامعات ورُفعت أشدُّ أنواع الشعارات عداءً للعداء الغربي لأمة العرب.
كنا نمضي اليوم مُحاصَرين داخل جدران الثانوية من قِبَل قوات الأمن، بمختلف تشكيلاتها. أحيانا، كنا نُنظّم مسيراتٍ عارمةً في الشارع، نتنقل خلالها عبر كل الثانويات المجاورة. تلحق بنا صفوف التلاميذ "الغاضبين" من كل مؤسسة تعليمية نمُرّ بها، لنمضي، مجتمعين، صوب المؤسسة التعليمية الموالية، وهكذا دوالَيْك، إلى أن نصل إلى ساحة ثانوية يعقوب. كانت تلك أقصى نقطة تسمح لنا بها القوات الأمنية التي ترافقنا. لم يكن مسموحا لمسيرتنا أن تذهب إلى أبعدَ من حدود حي سيدي يوسف بنعلي، مخافةَ أن "تكبُر" المظاهرة أكثرَ من اللازم، بالتحاقنا بطلبة مؤسسات أخرى خارج تراب العمالة.
كانت قوات الأمن ترافقنا. تراقب تحركاتنا بتوجُّس ويسجل مُخْبروها كلَّ صغيرة وكبيرة عن المسيرات. عن "زعمائها" و"قادتها"، على الخصوص. في اليوم الموالي، كان يُمنَع هؤلاء الزعماء الصغار من ولوج أبواب مؤسساتهم، ما لم يُحْضِروا أولياء أمورهم. بل منهم من يتوصلون باستدعاء رسميّ من قائد الدائرة الأمنية. وهناك، وبحضور وليّ أمره، يكونون أمام خيارَين لا ثالث لهما: إما أن يتخلّوا عن زعامتهم و"يْدخلُو سوقْ راسهومْ" أو يكون مصيرهم الطرد، إلى غير رجعة، من المدرسة! وتحت ضغط وليّ الأمر، المغلوب على أمره، يتمّ التنازل، في الغالب، على خيار "الثورة" لصالح إتمام مشوار الدراسة. مع ذلك، ورغم توقيعهم على التزاماتٍ تُفيد تَخلّيهم عن "قيادة" المظاهرات والاحتجاجات داخل المؤسسات، كان الكثيرون ينسون كلَّ ما التزموا به، بمجرد ظهور بوادرِ احتجاجٍ أو مظاهرة، في صباح اليوم الموالي!..
16- مجمُـوعة مُشاغِـبـيـنْ..
مرحلةُ الدراسة الثانوية تبقى راسخة في أذهان الكثيرين. يعتبرها معظم هؤلاء أحسن ما مرّ بهم خلال مشوارهم الدراسي. في هذه المرحلة، يكون التلميذ قد اجتاز المراهقة وطرَقَ عالَم الشباب. تكون ملامح شخصيته قد تحدّدتْ ودخل في مرحلة بداية رفض الوصاية الأبوية، التي يرى في شخص الأستاذ نموذجاً منها. يسعى إلى تكسير هذه الوصاية و"الثورة" عليها. مجموعةٌ من أصدقاءَ جمعتْني بهم أحداثٌ كثيرة ترسّختْ في الأذهان وصارت طرائفَ نستحضر أجواءها في كل لقاء يجمعنا. مواقفُ "كوميدية" كانت تأتي لتكسر إيقاع الدراسة، الرتيبَ، وتصنع لحظاتِ مرحٍ وانشراح وسط صفوف التلاميذ..
لا يمكن استرجاع هذه المواقف المضحكة دون استحضار مجموعة "مشاغبين" جمعتني بهم ثلاث سنوات رائعة. كنا نختار الجلوس في المقاعد الخلفية لنفس الصف. نحرص على أن تكون مقاعدُنا الأبعدَ من الأستاذ. عبد الإله، عبد اللطيف، عبد الصمد -1 و2- جمال، جواد وآخرون كانوا يُشكّلون لائحة بأسماء كفيلة بكسر "جدّية" أي أستاذ -أو أستاذة- مهما بلغت صرامته.
جمال، عندما يستثيره أحد المواقف ويشرع في الضحك، تنهمر دموعه بغزارة ويصْعُب إيقافُه عن طريقته الهستيرية، التي كانت غالبا ما تنتهي به خارج الفصل، بعد أن يناله سخطُ وغضب الأستاذ. عبد الإله، الذي غالبا ما يكون طرفا مباشرا في خلق المواقف المضحكة، لم يكن يكتفي بالضحك. يُقَهْقِهُ بصوت مرتفع وسرعان ما كان يجد الأستاذ -أو الأستاذة- واقفا عند رأسه، طالباً تفسيرا لما يحدث. عبد اللطيف كان عنصرا "خطيرا" ضمن تشكيلة المشاغبين. يأتي حركاتٍ وأفعالاً لا يمكن أن تَصْدُر إلا عن مجنون حقيقي. لا وجود في قاموسه لشيء اسمه المنطق أو التفكير. غالباً ما كان ينتهي إلى جعلنا نغرب بالضحك، نتيجةَ حركة أو تعليق "يُورّطنا" به في لحظةِ ضحك جماعي، بينما ينجح، هو، في كبح ضحكته، عند الضرورة، وكأنه غير مشارك معنا فيه.
على امتداد سنوات ثلاث، شكَّلْنا "بُعْبُعاً" حقيقيا لمجموعة من الأساتذة، خصوصاً منهم أولئك الذين كانوا يُظهرون جدية أكثرَ من اللازم في محاربة شغبنا ويحاولون التعامل معنا بعصبية أو بمنطق نرى فيه، من جهتنا، نوعاً من السلطة، التي كنا نسعى، وقتَها، إلى القطع مع جميع أشكالها..
على أنّ ما مَيَّزنا، أيضا، خلال تلك السنوات الثلاث، أننا كنّا دوماً ضمن الأوائل على مستوى النتائج النهائية في أعقاب كل دورة من دورات السنة الدراسية. أمرٌ استعصى معه على كثير من الأساتذة أن يستوعبوا كيف أن هذه المجموعة المشاغبة هي ذاتُها العناصر الأكثرُ تميُّزاً وتألُّقاً في النهاية. على امتداد السنوات الثلاث التي أمضيْناها في الثانوية، كان أعضاء مجموعتنا هُم أنفسُهم من يتنافسون على احتلال المراتب المتقدمة في التصنيف النهائي عند نهاية كل موسم دراسيّ..
17- علاقات مُـتـوتـّرة، لكنْ مُـتـميـّـزة..
نتيجةَ ميلنا، ربما، إلى نوع من "التمرد" في أفكارنا أو عدم توافقنا على قناة تواصلية ملائمة مع أساتذتنا، ظلت علاقاتنا مع هؤلاء تشهد العديد من مظاهر التشنّج والتوتّر. يبدو الأمر منطقيا، من زاوية نظر محايدة، لكنْ كانت لكليْنا أسبابُه وقناعاته وأحكامُه، الجاهزةُ أحياناً، لوصف الطرف الآخر بنعوت خاصة وتصنيفه ضمن خانة المغضوب عليهم. على أن هذه العلاقات كانت تعرف "نهايات سعيدة" إلى أبعد الحدود، في معظم الحالات. ما أذكره، شخصيا، عن هذه المرحلة أن علاقتي بكل الأساتذة الذين اختلفتُ معهم في التوجّهات وسبق أن اضطررنا إلى "تصنيف" بعضنا، عرفت كلُّها نهاياتٍ تُكرِّس مبدأ تبادل الاحترام..
قد تكون تلك إحدى مميزات جَيْلنا التسعيني، المغبون. لقد استطعنا أن نُذوّب الجليد الذي كان يمكن أن يَحكُم بالفشل على علاقتنا بأساتذتنا، الذين أكتفي هنا بالقول، في حقهم، إنهم يُشكِّلون نموذجا مثاليا لتفنيد مزاعمَ شكّكتْ أو تشكّك في قدرة المدرسة العمومية على صنع التميُّز..
ذاتَ حصة، وبسبب إلحاحه على استفسارنا، صديقي عبد الإله وأنا، عن سر عدم إحضارنا كتابَ المطالعة وتغاضيه عن زميلتيْن كانتا تجلسان مباشرةً أمامنا، لم تُحضِرا بدورهما كتاب المطالعة، ومع ذلك "أغفل" الأستاذ استفسارَهما حول الدواعي التي جعلتهما تنسَيان تحقيق رغبته في أن يُحضر كل اثنين، على الأقل، كتاب المطالعة.. لم نَبلَعْ هذه "الشهامة" من حضرة الأستاذ. سَرَتْ بيننا الهمهماتُ وانتهتْ بموقف مُحرج، بعد أن صَدَر مني تعليق مزاجيّ مفاجئ في غضون مرور الأستاذ بالقرب منا. كان الأستاذ ذاتُُه، قبل أيام قلائلَ فقط، قد عقد صلحاً بيني وبين إدارة المؤسسة التعليمية بعد "سوء تفاهم" مع أستاذ للإنجليزية، انتهى بي بالطرد خارج فصول الدراسة لمدة خمسةَ عشرَ يوما.
لهذا، غالباً، لم يستسغْ أستاذ العربية ذاك أن يَبْدُر مني تصرّف جارح لسلطته، المفترَضة، رغم أنه، بدوره، قد أخطأ التصرف. لذلك، لم يفكر في إبعادي عن حجرات الدرس، بل اكتفى بـ"اتخاذ موقف" مني ومن جليسي، الذي كان معه، بدوره، في خلاف شبه دائم..
عندما أخبرتُ الأستاذ، بعد أيام من الحادث، رغبتي في تقديم اعتذاري عما وقع بيننا، بـ"طريقتي الخاصة"، أبدى ترحيباً بالفكرة وهيّأ لي الجو المناسب. كان عاشقا للقصص والحكايات، وكثيرا ما حكى لنا العديد منها. تصرفتُ في إحدى هذه الحكايات وجعلتُها إطارا عاما لأحد نصوصي القصصية.
في الصباح الموالي، أخبر الأستاذ الجميعَ أنه سيقع تغيير بسيط على حصة ذلك اليوم، حتى يُتيح لي فرصةَ تلاوة النص القصصيّ..
18- أمّ يـاسِرَ الشّهـيـد..
وقفت مريام ترتجف، وهي تُراقب جحافل الإسرائيليين يداهمون القرية المسكينة وينتهكون حرمة أهلها، مُوزِّعين عليهم رصاصاتهم دون حساب. كانت مريام (يهودية مغربية حاربت إلى جانب الفلسطينيين) تقف وسط النساء، تُعايِنُ هذا الفصل المُروِّعَ لواحدة من أفظع المجازر التي اقترفها الصهاينة في حق هذا الشعب، الذي لم يرتكب من جرم يوما، عدا الدفاعِ عن حقه المشروع في تحقيق مصيره..
كان من تَبَقّى من شُبّان القرية وصبيانها يستميتون في الدفاع، رغم فقر إمكانياتهم. لم يكونوا ليُعيروا اهتماماً للموت الذي كان يُصَفِّر قرب آذانهم، على شكل رصاصات غزيرة، كأنها أمطار شيطانية! تساقط الكثيرون وارتفعت صرخاتُ الأمّهات وزغرداتُهنّ الواثقة، القويةُ، وكأنها وسيلة لتحية المستشهدين ومباركتهم قبل التحاقهم بالعالم الآخر..
اندفع صبيٌّ صغير، ممسكاً بيده حجارة ورمى بها أحد الجنود وأصابه في وجهه. انطلقت الزغاريدُ من الحناجر مُبارِكة. وضع الإسرائيليّ المصاب يديْه على وجهه يتفقّد موقع الإصابة. وفيما الصبي يعدو مبتعدا، صوّب أحدهم بندقيته الآليةَ نحوه وضغط على الزناد، تاركاً رصاصة قاتلةً تنطلق نحو ظهر الصبيّ المسكين. استقرت الرصاصة بين كتفَيْه وأْردتْه قتيلا في الحال. وجاءت الزغاريد كأنها غصّاتٌ أو أنّاتُ ألمٍ مخنوقة.. ترقرقت دمعتان من عينيْ مريام، وهي تنظر إلى أم الشهيد تواصل إطلاق زغرداتها، رابطةَ الجأش. أحسَّتْ مريام بالحقد يملأ جوانحَها. أرادتْ أن تقول شيئاً.. أن تفعل شيئاً.. من أجل الصبي، الذي قتله هؤلاء الجبناء أمام ناظرَيْ أمه. اتّجهتْ تعدو صوب "الجنود"، الذين وجّهوا بنادقهم نحوها، مُتحفّزين. كانت لحظةً خارج الزمان والمكان. لفَّ المكانَ السكونُ وانْحبست الأنفاس تنتظر ما عسى يكون من أمر هذه الفتاة، التي أمسكت بتلابيب الجندي القاتل، وهي تصرخ في وجهه، وقد غسلت الدموع خدّيْها. دفعها عنه، بقوة، مُهدِّداً إياها بسلاحه فلم تجدْ إلا صراخها.. ودموعها، التي انطلقت كأنّها السّيل.
أحسّتْ بيد تهزُّها، برفق، من الخلف. استدارتْ. طالَعَها وجهُ أمِّ ياسرَ، الصّارمُ. جذبتْها أمُّ الشهيد إليها وأخذتْها بين أحضانها. وقبل أن يتبلور السؤال في ذهنها: "لماذا لا تبكي، وهي أمه؟" سمعتْ أمَّ ياسر تهمس في أذنها: "يجب ألا تبكي، أبداً، بُنيّتي، أمام هؤلاء الأنذال.. لا يجب أن يرَوا ضعفََك أو يستشعروه.. إذا مات ياسر اليوم، فغداً أنجب سواه ليحلَّ محلَّه"!..
كان لكلماتها وقعٌ غريب عليها. أبعدتْ مريام أم ياسر قليلا عنها، وهي تنظر إلى عينيْها الواسعتين كالأفق الممتدّ. كفكفتْ دموعها. عادت تحتضنها، تتعلم حكمةَ الأجيال المقاوِمة وتشتمُّ بين ثنايا جسدها، المهتزّ، رائحةَ فلسطينَ الأسيرة..
19- جـيْـلُ القـَطـيـعـة..
جيلُ التّسعينيات.. دعوني أستعِرْ مثل هذه البدايات، كما يفعل صحافيو إعلامنا الرسمي، وهم يتحدثون عن إحدى الحِقَب البعيدة من سِيَر كُتّابنا وفنّانينا، التي تكون في غالبها "حافلة بالعطاء والبذل". وكثيرا ما نقرأ، نسمع أو نرى كيف أن أديبا أو فنانا قد خطفتْه المنون، دون أن تشفع للواحد منهما حياته "الحافلة" ولو بميتة كريمة.. في العديد من الحالات، يكون هذا الـ"خطفُ" الذي يمارسه الموت في حق فنانينا وأدبائنا فرَجاً طالما انتظروه، بعد سنوات "حافلة"، هذه المرة، بالنُّكران والإقصاء وبحُكمٍ قاسٍ بالعيش في وحدة قاتلة، قاتلةٍ إلى درجة أن الموت، حين يصل في موعده المقدَّر، لا يكاد يُعايِن في الجسد الـ"مهجور" أماراتٍ كافيةً على حضور الحياة..
أياماً بعد موت أحد فنانينا أو أدبائنا، اعتدْنا، أيضاً، معاينةَ جحافل المُعَزّين وقوافل المدّاحين، الذين لن يَعدَموا بين تفاصيل سيرة "الراحل" محطاتٍ مشرقةً وشمَتْ حياة (الكبير، المتميِّز والفلتة).. الذي لم يَجُد الزّمان بمثيل له في ميدان إبداعها..
أسماءُ كثيرةٌ ومتعاقبة. علاماتٌ مضيئة في درب أجيال وأجيال تتساقط تباعاً، في ظل "إغفال" من الجهات، المفترَض أن تكون، حقا، وصية، على حقوق أدبائنا وفنّانينا، اسما على مسمّى، وليس فقط أشخاصاً يحضرون في المناسبات الرسمية، الحزينِ منها والمُفْرِح، يُلْقون خطابات تتعثر ركاكةً وارتجالية، يلتقطون صورا تذكارية ثم ينسحبون بأسرع وقت ممكن، ودون أن يشعر بهم أحد في الغالب.. في الوقت الذي يعيش بيننا، هنا والآن، أدباء، فنانون متميِّزون وفلتات حقيقية تحترق في صمت، تُنير طريق الآخرين وتُعبِّد دروب التألق والتفرد، لكنْ دون أن نجد لا الوقت ولا الاهتمام الكافيَّيْن حتى نُخصِّص لهذه الأسماء مساحة ضمن جغرافيا أو تاريخ ثقافتنا، المعطوبة، جرّاء عواملَ كثيرةٍ، لعلّ أهمَّها غياب قناة "تواصل" وحوار في زمن تكنولوجيّ زاحفٍ ولا يسمح وقتُه الثمين بالتوقّف في محطات كثيرة..
على أن عشيرة الأدباء والفنانين والمبدعين، على امتداد ربوع البلاد، يتحمّلون، أيضاً، قسطَهم من المسؤولية عن هذا الوضع الذي آلَتْ إليه أحوالُهم.. لقد سمحوا لأنفسهم بلَعِب دور المتفرج، وبشكل انفرادي، على ما يحدث أمامهم، دون أن تكون لهم مواقفُ معلَنة وصريحةٌ. لقد سمحوا لنفس "الوجوه" بإعادة طرح نفس الأسئلة.. سمحوا بتكريس القطيعة..
وحتى في المرات التي تُعطى فيها فرصٌ لأسماءَ جديدةٍ، يكون ذلك في مناسبات معدودة، منسية، واعتمادا على معايير لا تتوافق عليها -ربما- كل مكونات الجيل التسعيني آلْـ"أَضَاعُوهْ"..
20- حـالاتٌ وذكـْرَيـات..
كثيرةٌ هي الأوقات واللحظات التي ورَّطتْنا خلالها ظروف غيرُ مفهومة في مواقفَ وأوضاعٍ تستدعي، في نظر المدرِسين، "عقوبة" من نوع ما يجب أن ينزل على ذلك التلميذ البائس، الذي يُضبَط متلبسا، وإن كان في معظم تلك المواقف لا يعرف شيئاً مما يحدث ولا كيف وجد نفسه في تلك الورطة..
قد ينخر تلاميذ الفصل بأكملهم، وبشكل فجائيّ، في حالةِ تراشقٍ بالأوراق والمتلاشيّات، في غفلة من الأستاذ.. قد تجتاح أحدَ الصفوف أو حلقةً محدودةً منه نوباتُ ضحك جماعيّ، جراء موقف أو حركة أو نكتة من أحدهم.. وقد يشرع أحد التلاميذ في تقليد الأستاذ، من خلف ظهره، كاسرا "رتابة" السير المُملّ للحصة.
لكنّ الأستاذ قد ينتبه إلى بعض هذه الممارسات، صدفةً في الغالب، ليقلب الموقف كلَّه إلى دراما حقيقية، خصوصاً إذا كان الموقف الذي تورَّط فيه التلميذ يدخل ضمن السلوكات غير المقبولة، كما يُحبّ الأساتذة أن يُطلقوا على مثل هذه التصرفات.
يَحْضُرني موقفُ إحدى التلميذات لم "تتشجّع" للمشاركة في عملية تراشقٍ، ذاتَ حصة، إلا في الوقت ذاته الذي اختار فيه الأستاذ، المستغفَلُ، أن يستدير نحونا، بعد أن استغرق طويلا في تدوين معلومات على السبورة. أمسكتْ بنفس طرف الورق المضغوط الذي رماها به أحدُهم قبل قليل وقامت من مقعدها لتعيد إلى المعتدي ضربته. لكنْ.. ما إن رفعت يديْها، في حركة لتقذف زميلَها حتى استدار الأستاذ وعايَنَ الموقف الغريبَ الصادر من إحدى أكثر التلميذات هدوءاً داخل المجموعة كلها..
وأتذكّر، باستمرار، موقفَ عبد الإله ومحمد. كانا يجلسان بالقرب مني في إحدى المواد المسائية، أعمد خلالها إلى إخفاء جهاز راديو صغير داخل محفظتي وأُشعله على إيقاع برنامج موسيقي صاخب وراقص. كنا نستغل انعدام انتباه الأستاذ ونستمتع بحصة من الموسيقى في مؤخرة الصف. بل إن "راقصَيْ" المجموعة لم يكونا يكتفيان بالاستماع.. يقومان، في فترات متقطعة، ويُؤدّيان رقصات شبابية أمام أنظار الفصل كله، ما عدا ناظرَيْ الأستاذ.. أحيانا كثيرة، تم ضبطُهما "متلبّسَيْن بالرقص". ولطيبوبة الأستاذ وسماحته، كان يأمرهما بالوقوف إلى الجدار الخلفي للفصل على ساق واحدة.. يكون عليهما أن يلبثا على حالهما تلك إلى أن ينقضيَّ ما تبقى من حصته..
وأذكر أنني كنت، بدوري، ضحية لبعض هذه المواقف السخيفة حينها، والتي حوَّلها توالي السنوات وابتعادها عن الراهن إلى ذكريات جميلة، رغم أن النتائج التي ترتّبتْ عنها في إبانها لم تَخدُمْ في شيء مسارَنا الدراسيّ وعلاقاتنا مع أساتذتنا، الذين كانوا يجدون أننا نُمثّل عيِّناتٍ حقيقيةً عن "جِيلْ قِمّشْ.. اللّي ما يْحشمْ.. ما يْرمّـْشْ"..
21- عـنـْدما أقَـمْـنا حفـْـلَ الـوداعْ..
مرّتْ سنواتُ الثانوي الثّلاثُ بسرعة، رغم كل الأحداث الكثيرة والفارقة التي شهدتْها. في نهاية الموسم الثالث والأخير، تجنّد تلاميذ القسم الذي كنا ندرس فيه، في خطوة مفاجئة لتنفيذ فكرة لا ندري مَن كان وراء اقتراحها. "استقرّ عزمُنا" على تنظيم حفلة على شرف الأساتذة الذين رافقونا خلال تلك الحقبة الزمنية من دراستنا.
حدّدْنا يوما وأَشْعرْنا الأساتذة المعنيّين. حجزنا أحدَ الأقسام. اشترينا باقات من الورد والكثيرَ من المشروبات الغازية، بينما تنافست التلميذاتُ في تحضير أطباق لذيذة من حلويات المطبخ المغربي، المتميّزة. أعَدْنا ترتيبَ الطاولات والكراسي في حجرة الدرس التي وقع عليها الاختيارُ لاحتضان "الحدث"، الذي شكّل مفاجأة جميلة لأساتذتنا و"صفعة" معنوية لتلاميذ الفصول الأخرى، الذين لم يُسعفْهُم تفكيرهم في الاهتداء إلى مثل هذه الالتفاتة الرّمزية.
حدّدْنا يوما وأَشْعرْنا الأساتذة المعنيّين. حجزنا أحدَ الأقسام. اشترينا باقات من الورد والكثيرَ من المشروبات الغازية، بينما تنافست التلميذاتُ في تحضير أطباق لذيذة من حلويات المطبخ المغربي، المتميّزة. أعَدْنا ترتيبَ الطاولات والكراسي في حجرة الدرس التي وقع عليها الاختيارُ لاحتضان "الحدث"، الذي شكّل مفاجأة جميلة لأساتذتنا و"صفعة" معنوية لتلاميذ الفصول الأخرى، الذين لم يُسعفْهُم تفكيرهم في الاهتداء إلى مثل هذه الالتفاتة الرّمزية.
كان ذلك، في الحقيقة، مناسبة لتذويب بعض الخلافات بيننا كتلاميذ، أولاً، وبيننا وبين بعض رجال التدريس، الذين وقعتْ بيننا وبينهم "خلافات". كانتْ لحظةً، أيضاً، للاحتفال بنهاية هذه المرحلة الأساسية من مشوار دراسيّ كان معظمُنا ينوُون متابعته، بعد حيازة شهادة "الباكْ"، الغالية..
وزّعْنا باقات الورود على زوايا الحجرة الدراسية ورتّبْنا مجموعة من الطاولات وسطها. على الطاولات المتناسقة، وضعنا قاروراتِ المشروبات وأطباقَ "كْعبْ غْزالْ" و"بوفقّوس" والكثير من الأكواب الزجاجية..
كان الجميع في الموعد، وفي كامل أناقتهم. أذهلت المفاجأة الأساتذة وأخرستْ ألسنةَ بعضهم، التي كانت، في بعض المناسبات، أطولَ من اللاّزم.. بعضُهم الآخرُ بَدَوا مُحرَجين ولا يدْرُون ما يقولون أو يفعلون أمام هذا "التكريم" البسيط.. وسط كلمات مُرتجَلة ومرتبكة ومستملحات وطرائف ظرفاء "مجموعة المشاغبين"، جلسنا نلتهم الحلويات. أرسلنا إلى بطوننا العديدَ من كؤوس "الموناضا" في ذلك اليوم البعيد من عام 1993. ودون أن نُفكّر في أن تلك ستكون آخرَ مرة نجتمع فيها كلُّنا في فضاء واحد، احتفلْنا وهنّأنا بعضَنا البعض وأنفُسَنا.. وكأننا أطفال كبار ينجحون لأول مرة في مشوارهم الدراسيّ، بدوْنا في ذلك المساء البعيد..
أصررْنا على تحديد يوم سابق لإعلان النتائج. كنّا نعرف أننا لو انتظرنا إلى ما بعد ظهورها، فربما يفوق، حينها، عدد الغائبين نظيرَه من الحاضرين.. سيكون كلُّ واحد منّا قد أخذه موكبُ الحياة في اتجاه يصعُب معه الالتفات خلفه أو الاهتمام بـ"تفاصيلَ" صغيرة كهذه.. وهو ما تأكّد، بالملموس، بعد "تعليق الطّابْلو"، الذي أعطانا، وهو يورد أرقامَنا ضمن لائحة "الناجحين"، تأشيرة عبور نحو المجهول، عبْر بوابة مؤسسة تعليمية نُعرّفها اختصاراً بـ"لافاكْ" (La Fac )..
22- ودَخـلـْـنا الجـامِعـاتْ..
كلية الآداب. تقع في الطرف الآخر للمدينة. بعد عطلة صيفية أمضيْناها في استقصاء روائح "الكُونْكورات" وتعبئة طلبات المشاركة في مباريات، هنا وهناك، في محاولة يائسة لتجنُّبِ "خيار" الجامعة، لم يجد السوادُ الأعظمُ منا بدّاً من الاستسلام للأمر الواقع وركوب "طُوبيسْ لافاكْ" -المتأخر دوماً عن موعده- مكرَهين لا أبطالاً..
كلُّ تلك الطوابع البريدية ونُسَخ الشهادة وبطاقة التعريف التي يُطلَب منها الكثير في كل إعلان عن مباراة من المباريات، كلُّ هذا ذهب إلى غير رجعة وارْتكَنَ إلى مكان ما في دهاليز ومكاتب الإدارات والمؤسسات، عبر تراب المملكة.. بعد أن ثقبتْ مصاريفُنا الكثيرةُ جيوبَ آبائنا، بقي باب واحدٌ لا يشترط لدخوله أكثرَ من شهادة "الباك"، إياها. وتعرفون، طبعاً، أيَّ باب أعني..
تحتلّ كليّة الآداب، التابعة لجامعة القاضي عياض، إلى جانب كلية الحقوق، حيّزاً كبيراً من خلاء شاسع في حي "الداوديّات". أمضيتُ جزءاً من طفولتي في هذا الحي. كنا نسكن في الوحدة الرابعة، غيرَ بعيد عن المبنى الجامعي.
كلَّ صباح، كنّا نتدبّر بعض الدراهم من أهلينا ونستقلّ الحافلة المزدحمةَ من ساحة المصلى في اتجاه حجرات الدرس الجديدة التي أصبحتْ تحمل أسماءَ جديدةً: المدرَّجات.. أجواءُ الجامعة فتحتْ أعيُننا على معطيات جديدة وأنساق متقاطعة من المدارك والأفكار وأحالتْنا على عوالمَ يتّسع فيها مجالُ الحرية والتصرّف وتتضارب داخل رحابه زوايا النظر إلى الناس وإلى العالَم..
كان "اختيار" شعبة الآداب العربية قناعةً ذاتية ترسّختْ في ذهني منذ زمن بعيد. منذ الأيام الأولى التي اكتشفتُ فيها متعةَ القراءة، التي انقلبتْ، وأنا أنتقل من كِتاب إلى كِِتاب، ضرورةً من ضرورات الحياة بالنسبة إليّ. ولأن الكثيرين كانوا يعتبرونها "مطية" سهلة يَسيرٌ ركوبُ قطارِها، المغبون، فقد كانت شعبة الآداب العربية تعرف تسجيل المئات من الطلبة، المغلوبين على أمورهم. على أن بداية علاقتي بكلية الآداب اتّسمتْ بحالة من الارتباك جعلتني أسجّل اسمي، خلافاً لكل التوقعات، في شعبة التاريخ والجغرافيا...
استغرب الكثيرون، كما استغربت بدوري، لاحقاً، هذا "الاختيار"، الغريب منّي. لكنْ لا أحد كان يعرف ما يجري ويدور في دواخلي، المضطربة. لم أكنْ أريد أن أواجه أيَّ مشاكل في مشوار دراستي الجامعية. أحدُ زملائي في الثانوية جاورني خلال سنوات الثانوية وفي سنتي الأخيرة في الإعدادي، كان يعتمد عليّ بنسبة 90% لكي ينتقل، في نهاية الموسم، إلى القسم الموالي.. أصبح صعباً الفكاكُ منه. وكان الانتقالُ إلى الجامعة فرصةً مواتية لي. كان هذا السّببَ الذي جعلني "أُراوغ" وأتخلّى، مُكرَهاَ، عن عشقي الأول: "الأدب العربي". كان هو قد "سبقني" وسجّل اسمَه في هذه الشعبة، مما دفعني، أمام "حبّه ولهفته" إلى البحث عن بديل لـ"شُعبة مَن لا شُعبةَ" له في جامعاتنا...
كان ذاك الزميل من أكبر المؤمنين بنظرية "من نقل انتقل ومن اعتمد على نفسِه"... لذلك أَقنَعَ نفسه بأنّ أسهلَ وسيلة للاستمرار في "الإخلاص" لهذه المأثورة "المستحدثَة" هي أن يظلَّ "لاصقاً" فيّ حتى ونحن في الجامعة، تَصوّروا!..
لأجل "معاكسته" فقط، تخلّيتُ عن شُعبتي المفضَّلة ورهنتُ نفسي بـ"تخصّص" آخرَ من بين "الاختصاصات" المُضحكة/ المُبكيّة، في آن، التي تقترحها جامعاتُنا، المُوقّرة، على قاصِديها من الراغبين في التعلُّم و"التـّحصيل"..
23- الرّجـوعُ إلى الأصْـل.. أدبٌ..!
كنّا في أحد مدرّجات كلية الآداب لحضور إحدى المحاضرات، ضمن شعبة التاريخ والجغرافيا. كان إلى جانبي أحد رفاق الدراسة منذ فترة الإعدادية "تورّط"، بدوره، في التسجيل في هذه الشعبة، "الطريفة"، أمام غياب خيارات أخرى تستجيب لمؤهلاته واستعداداته. كان كلّ شيء يسير بشكل اعتيادي إلى أن قرّر الأستاذ المحاضر، بغتةً، أن يُعكّر صفوَ مزاجي، في ذلك الصباح البعيد من مطلع التسعينيات.
قام الأستاذ وتناول مسطرة طويلة وأخذ يرسم بعض الخطوط ويُحدّد بعض النقط الافتراضية على السبورة الكبيرة. كنّا في درس "تطبيقيّ" لإحدى تفرّعات مادة الجغرافيا. عندما طلب منا الأستاذ أن نُخرج أقلامنا ومسطراتنا و"دفاتر الرسم" لنُجيب على أحد أسئلته، من خلال رسم ما شرحه لنا، تبادلتُ مع صديقي نظراتٍ ذاتَ معنى. كان يعرف، جيدا، نفوري الكبيرَ من لغة الأرقام والتحديدات. وبينما وضع صديقي محمد مسطرته فوق الصفحة المخصَّصة للرسم في دفتره، وقد أخذ الأستاذ يقترب من الطلبة، يُراقب ما يفعلون، انحنيْتُ على صديقي وقلتُ له هامساً:
قام الأستاذ وتناول مسطرة طويلة وأخذ يرسم بعض الخطوط ويُحدّد بعض النقط الافتراضية على السبورة الكبيرة. كنّا في درس "تطبيقيّ" لإحدى تفرّعات مادة الجغرافيا. عندما طلب منا الأستاذ أن نُخرج أقلامنا ومسطراتنا و"دفاتر الرسم" لنُجيب على أحد أسئلته، من خلال رسم ما شرحه لنا، تبادلتُ مع صديقي نظراتٍ ذاتَ معنى. كان يعرف، جيدا، نفوري الكبيرَ من لغة الأرقام والتحديدات. وبينما وضع صديقي محمد مسطرته فوق الصفحة المخصَّصة للرسم في دفتره، وقد أخذ الأستاذ يقترب من الطلبة، يُراقب ما يفعلون، انحنيْتُ على صديقي وقلتُ له هامساً:
-نلتقي في ما بعدُ وأشرح لك..
سحبتُ أدواتي من على الطاولة وانسحبتُ من المدرَّج، في هدوء. صعدتُ بعض الأدراج وانسللتُ عبر باب خلفي. وقبل أن أختفي، بادلتُ صديقي بعضَ الإشارات والنظرات، لأتركه مغربا بالضحك. أدرك ما أنا عازم على فعله. لم أكن أحتاج إلا إلى مثل ما وقع لكي أقتنعَ، تماماً، أنني لم أُخلَقْ لشيء اسمُه تاريخ أو جغرافيا، خصوصاً إذا كانت تفوح من أحدِهما رائحةُ أرقامٍ وحسابات..
قصدتُ، مباشرة، قسم الشؤون الطلابية. هناك، طلبتُ ورقة لأعبّئها مضمّناً إياها طلباً بتغيير الشّعبة. من حسن حظي أن الوقت كان ما يزال يسمح بذلك. في صباح اليوم الموالي، التحقتُ بقسم "الأدب العربي". قلتُ بيني وبين نفسي إن ذلك أفضل، على كل حال، من الشعبة التي تركتُ. فكرتُ في ذلك الزميل الذي سأجده في انتظاري في محاضرات الآداب. سيكون أكبرَ المرحّبين بعودتي "عن غيّي". مع ذلك، وجدتُ العودةَ إلى قسم الآداب أفضلَ من إجبار نفسي على احتمال مثل تلك المحاضرة التي غادرتُها بالأمس. كان من حسن حظي، أيضا، أنهم وضعوني في "فوج" غير الذي أُدرجَ فيه اسم صديقي، "اللصيق"، الذي كان يُمنّي النفسَ أنْ تجمعنا مقاعد الدراسة "إلى الأبد"..
وكما توقّعتُ تماما، كانت محاضراتُ الأدب أرحمَ بي من سابقاتها في التاريخ والجغرافيا والجغرافيا "التطبيقية"!... وعندما واجهني الصديق الذي كنت أتهرّب من التسجيل معه في نفس الشعبة عن سرّ عودتي إلى شعبة الأدب. لم أعرفْ كيف أشرح له الأمر. لم أكن أريد أن أجرح "مشاعره" وأُفصح له عن حقيقة "مناورتي" تلك..
24- فضاءان لِعـالـَم واحِـد..
كنا حوالَي ألف من الطلبة في شعبة الآداب، منقسمين على عدة أفواج. إضافةً إلى ثانويات مراكش، التي "تُفرغ" السوادَ الأعظم من تلامذتها بين جدران الجامعة، كان هناك طلبة قادمون من مدن مجاورة، كبني ملال، القلعة وآسفي..
في بعض المحاضرات، كنا نلتقي جميعاً في مدرَّج واحد. خلقٌ كثير يهجمون على الكراسي، الطويلة، التي تؤثّث المدرّجات.
تلك "العصابة"، الملتحمة، التي كنا نشكّلها، خلال مرحلة الثانوية، ذابت وسط الكتلة البشرية، الكثيفة، التي استقبلتْها كلية الداوديات. قليلون منا أسعفهم الحظُّ في وتجنُّبُ تجربة "لافاكْ La Fac "، كعبد اللطيف، الذي التحق بمركز تكوين المعلمين في الرباط. وحتى مَن وجدوا أنفسَهم يخوضون هذه التجربة، في ظل غياب بديل وليس لسبب آخر، فرّقتْهُم التوجّهاتُ والشُّعَب التي اختاروها.. هكذا اختار عبد الإله التاريخَ والجغرافيا، قبل أن يلتحق، في ما بعدُ، بسلك الشرطة، فيما اختار عبد الصمد2 وجواد كليةَ الحقوق. ولأننا كنا نُشكّل مجموعةً متجانسة حتى خارج فصول الدراسة وقامت بيننا علاقاتُ صداقةٍ متينة، فلم نكنْ نستطيع أن نصبر على الابتعاد عن بعضنا البعض كثيراً..
عندما كنتُ أحد نفسي غيرَ قادر على متابعة واحدة من المحاضرات، كنت أنسلُّ، بهدوء، وأذهب للبحث عن عبد الإله في مدرج "التاريخ والجغرافيا". أقتلعه من مجلسه ونتوجّه، معاً، إلى المبنى المقابل: كلية العلوم السياسية والاقتصادية، حيث جواد وعبد الصمد2. مدرَّجاتُ كلية الحقوق أكبرُ من نظيراتها في الآداب. كنا نلِج المدرَّجَ من باب علويّ. نتسمّر قربَ الباب ونمسح بأعيننا المسرحَ الكبيرَ: مئاتٌ من الطلبة. لم تكنْ مهمّةُ تحديد مكان الشخصين بالأمر الهَيّن.
لكننا كنا ننتهي، دائماً، إلى إيجادهما. نقصدهما ونتدبّر مكاناً نجلس فيه إلى جانبهما، لنخوضَ في أحاديثَ جانبية، كما هو حال الغالبية من الطلبة والطالبات. كان المدرّج يشهد لغَطاً وصخباً صارخَيْن، خصوصاً في صفوفه الخلفية. محاضراتُ الحقوق طويلة ومعقّدة، تتطلب قسطاً وافراً من التركيز لفهم شروحات وإيضاحات الأستاذ المحاضر، وإنْ كانت، في مُجملِها، مطبوعةً في كتب ومقرّرات تُباع في المكتبات المحيطة بالكلية.
في أحيان أخرى، كثيرةٍ، كنتُ أقصد خزانة الكليّة، حيث مجموعةٌ من الكتب والمَراجع التي يتطلّب الحصول على إحداها تركَ بطاقة الطالب لدى القيّمين على المكان، مكان لم تكنْ تُحترَم، على الإطلاق، خصوصيتُه، التي تستوجب قدراً أكبرَ من الهدوء. بين الفينة والأخرى، كانت تقع بعضُ الاحتجاجات على الضجيج الذي يعُمّ المكان. احتجاجاتٌ كان يقودها البعضُ ممن يريدون التركيز في ما يطالعون، ضدّ صنف آخرَ من الطلبة، يُفضِّلون عقدَ "اجتماعات" وإدارةَ نقاشات، قد تصل حدود الصّخَب، في المكان غير المناسب لذلك، بتاتاً، في الخزانة..
25- آخِـرُ الأدباء المُحْـتـرَميـن..
الصفحةُ البيضاءُ الخالية.. امرأةٌ عاريّة.. جسدٌ مُحايِد ونظراتٌ باردة حدَّ الاستفزاز. وأنتَ، مُمسكاً بالقلم تبغي أن تملأ به مساحات البياض، القاسي، تبدو في حالات عديدة. أحيانا، تظلّ شارداً، تُطارد مَطالِعَ الأفكار.
كأبلهَ تبدو، أحياناً أخرى، فاغراً فاك، عاجزاً عن رسمِ البدايات لملامحِ حكايةٍ لا تريد الاختمارَ، أبداً، كما تشتهيها في خيالك، رغم جُموحه ومهما يبْلُغ من درجات الغوص بحثاً عن هذه البدايات.. وفي لحظات، قد تبدو أمام الصفحة كأنّك من "فطاحل" أزمنة الأدب الغابرة.. الكتابة شيطان في شكل امرأة.. قد تُغوي فتصُدّ، تُبهِِر فتَهْجُر.. وقد تأتي مُنقادةً، مُستسلِمة لنشوة الاستكان والانصيّاع لإملاءات الذّهْن، تُخُطّها على بياض الصّحائفَ بَهيَّ كلامٍ جميلِ أشكالْ..
نقاشات وجدالات بآفاقٍ أرحبَ تحتدم ما بيننا بين حين وآخر.. ولأننا كنا طلبةَ آداب، يحدث أن تجُرّنا أحاديثُنا، في مناسبات كثيرة، إلى استعراض بعض الأدباء الذين أثّروا فينا خلال فترات ابتلائنا بـ"داء" المطالعة. أسماء كثيرة و"كبيرة" ارتسمت ملامحُهم الأدبية وتياراتُهم الفكريةُ في مخيّلاتنا..
على أن دراسة الآداب أضحت تعني الالتفاتَ إلى امتلاك مناهجَ وأدواتٍ تحليليةًٍ لـ"قراءة" نص من النصوص. شكلانية، بنيوية، ما بعد بنيوية، تفكيكية، جماليات تلقٍ ولستُ أدري أي تسميات وأوصاف!.. كل "مدرسة" تُحلّل النص و"تقرؤه" من زاوية نظر مُنظِّريها الأوائل، الذين يُشكّلون "علاماتٍ فارقةً" من منظور مُناصري كل نظرية أو تيار على حِدَة... ونحن، طلبةَ الآداب المَسَاكينَ، علينا، فقط، أن نحفظ ونستوعب. وحتى إذا ظللنا، في حالات كثيرة، عاجزين عن بلوغ مستويات الاستيعاب، فلم يكن مسموحا لنا أن نعجزَ، على الأقل، على "الحفظ"، فقد يَفِي، لوحده، في كثير من الحالات، بـ"الغرَضْ"..
والحفظ في الكلية يعني القدرةَ على تذكّر كمٍّ هائل من المعلومات، المتصارعة، تتجاذب أمخاخَنا، المطالَبة بـ"تسجيل"، "تخزين" و"حفظ" كل درس وركنِه، بعناية، في أحد أدراج الذاكرة، المثْقَلة، حتى إذا لاحتْ الاختباراتُ في الأفق، نجدها حيث "حفّظناها"، تنتظر أن نستحضرها ونملأ بها فراغات الأوراق، القاسية والصارمة، التي كانوا يضعونها أمامنا، ليَقيسوا درجاتِ استيعابنا دروسَهم وتنظيراتِهم..
في أحاديثنا وجدالاتنا حول "المدارس" و"التيارات" التي طبعت الساحةَ الأدبية، العربية والعالمية، كانت إحدى الطالبات، كلما عرّجنا على الموضوع، تُذكِّرنا -وهي تحاول أن تضع حدا لأحلامنا واستيهاماتنا المنطلقة- أن "عصرَ الأدب قد انتهى وأن زمن الإبداع قد ولّى، إلى غير الرجوع".. في اعتقادها، ليس هناك احتمالٌ لأنْ تُنتج منظومتُنا التعليمية أديباً، بالمعنى الحقيقي! وتبعاً لذلك، فما علينا إلا أن نستسلم للأمر الواقع ولا يشطحَ بنا خيالُنا إلى أبعدَ من دائرة "حفظ" الدروس إلى حين حلول الامتحانات وتجشّؤ ما حفظناه على الأوراق أمامنا ومغادرة القاعات، في انتظار النتائج..
26- "ا. و. ط. م.".. شُيـوخ ٌومُـريـدُون..
حتى نحضر إلى قاعات ومدرّجات الاختبارات، عند نهاية كل موسم جامعي، غيرَ خائفين من مواجهة الأسئلة "المُلغَّمة" للأساتذة، كان يُفترَض فينا أن نواظب على حضور محاضرات و"دروس" هؤلاء على مدار السنة..
محاضراتٌ مبنية على "أمّهات" الأفكار والكتب التي "تأثّر" بها الأساتذة الجامعيون أو وجدوا أنفسَهم، ببساطة، "مُجبَرين"، بشكل من الأشكال، على إقناع أنفسِهم بجدوى هذه الاتجاهات والتيارات والتجارب الأدبية أو النقدية، كلٌّ حسب التخصص الذي يُدرّس، حتى يستطيعوا "إقناع" و"إفحام" هذه الجيوش، الهادرة، من "طلبة العلم" على أعتاب جامعات مغربية، مُترهِّلة..
على أنْ لا شيءَ، في الحقيقة، كان يُجبرنا، نحن الطلبة، بإلزام أنفسِنا بضرورة حضور هذه المحاضرات أو الاستماع إلى ما يقوله أصحابها. فالجامعة كانت، بالنسبة إلى العديدين، مجالاً لممارسة "الحرية"، أولا وقبل كل شيء! حرية امتدّت لتطال جوانبَ متشابكة ومُعقَّدة من المجالات والفضاءات.
الجامعة المغربية: فضاءٌ مفتوح على كل الاحتمالات والتوقعات. عالمٌ تُصارع فيه أفكاراً وتوجهاتٍ فكريةً "متفتحةً"، حدَّ التطرّف، أفكارٌ أخرى، "منغلقةٌ"، حدَّ التطرف! وما بين اليسار واليمين، الإيديولوجيا والحيّادْ، ما بين الالتزام والتحرّر، ما بين التبعيّة الفكرية، كأضعف الإيمان، وبين الاستقلال، كأقصى الأماني، تتقاسم "الفصائل" المُسيطِرة على رحاب الحرم الجامعي انتماءات وتوجّهاتِ "جيوش" الطلبة، ضمن الإطار الوحيد الذي "تبنّى" طروح وهُمومَ وانتظارات الجسد الطلابي المغربي "ا.و.ط.م.".
استراحة العاشرة صباحاً كانت ساعةَ "الذروة" بالنسبة إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. في هذا الفاصل الزمني بين المحاضرات، كان كلُّ "فصيل" يستعرض ترسانته التنظيمية وينزل إلى الساحة لعرض إحدى "الإشكاليات" للمُدارسة في "حلقية" يُنشّطها "زعماءُ" حالمون، وقد التفّ حولهم جمهور من "المريدين" أو المتعاطفين... أحيانا، ومن مجرد حلقة صغيرة لا يكاد يتجاوز مجموع مُنشِّطيها ومُتابِعيها عشراتِ الأفراد، قد يتكون، على حين غرّة، حشدٌ هادر من الطلبة يجوبون أروقةَ الحرم، مُردِّدين شعارات وهُتافاتٍ على إيقاعات مختلفة..
بالنسبة إلى "الجُدُد"، كان هذا النوع من ممارسة "الحق في الاحتجاج" طارئاً ويستدعي الحدَّ الأدنى من "المُساءلة" والدهشة، قبل تقرير "الانصهار" في صفوفه و"تبنّي" قضاياه أو صرف النظر عن المسألة والاكتفاء بالمداومة على حضور المحاضرات والدروس وترْك مناقشة مثل هذه الأمور للزمن، وحده، يُقرّر فيها بالرفض أو بأدنى مستويات التعاطف..
27- يـوميّـاتٌ غير مرئيّة مِن مُسلسَل الضَّيـاعْ..
باستثناء محاضرات معدودة، ضبطتُ تواريخَها وداومتُ على حضورها، صرفتُ ساعات الباقي بين خزانة الكلية ومدرَّج الإمام مالك في الكلية المقابلة، حيث كان جواد وعبد الصمد2 يتابعان دراسة "علوم السياسة"..
كنتُ أصل في حدود العاشرة، في معظم الأيام. أسحب إحدى الروايات من خزانة الكلية وأختار لي مجلسا في إحدى زوايا المكان. ساعتان أو أكثر أمضيهما، مُبحِراً بين دفّتَي الكتاب، قاطعاً كل صلاتي بالعالم من حولي. إذا أعجبتْني فصولُ الكتاب واستأنستُ بشخوصه وفضاءاته وما يجري داخلها من أحداثٍ ووقائعَ، انعدمت الصلةُ بيني وبين "الراهن" في "الحال"!.. وفي الوقت الذي يكون "أترابي" يتسابقون على احتلال الصفوف الأمامية لحضور المحاضرات، من جهة، و"تسجيل الحضور" في ذاكرة الأستاذ المحاضر، من جهة ثانية، خصوصا إذا كانت محاضراته تندرج ضمن المواد الشفوية، بُغيةَ ترسيخ "مواظبتهم" وملامح وجوههم في مُخيّلة الأستاذ، كنتُ، أنا وآخرين معي، كُثْراً، أطارد تفاصيلَ حكاياتٍ وشخصيات ورقية..
عند الثانية عشرة، يشهد فضاء الخزانة حركة متزايدة ً لطلبة وطالبات تخلّصوا، لتوهم، من دوخة مُدرَّج أو حجرة. منهم من يأتون للبحث عن صديق أو "رفيق". منهم من تأتون بناء على موعد مُسبَق مع "صاحب" أو عشيق. منهم من يأتون بحثاً عن "أخ" أو "أخت"، ومنهم من يأتون فقط لأنّ أرجُلَهم قادتهم إلى المكان، دون تخطيط قبْليّ.. تتعالى الأصوات وتتداخل. يصبح من المستحيل مواصلة المطالع...
كنت أنتهز الفرصة وأطلب من أحدهم أو إحداهن إمدادي بنص المحاضرة التي فاتتْني للتو، حتى أستطيع "نَسخَها" في أحد دفاتري، وأجد ما أطالعه حين تقترب فترة الاستعدادات ليوم "يُعَزّ فيه المرء أو يُهان"!... في الفترة الزوالية، كنتُ أتحول إلى آلة لنسخ المحاضرات. أُخرج دفتري وأشرع في "نقل" ما فاتني في الوقت نفسه، الذي يكون أقراني من الطلبة، "المُجِدّين"، يستمعون إلى محاضرة أخرى سأضطرّ لنقلها، بنفس الطريقة، في موعد لاحق..
على هذه الوتيرة سارت أيامي داخل حرم الجامعة، خصوصا بعد أن اشترى لي أحد أشقائي دراجة هوائية. أضحتْ تحت تصرفي وسيلةُ نقلٍ كنت أستغلها، بعد العودة من الجامعة، للالتحاق بالأصدقاء في بيت جواد، في "الضفّة"، كما كنا نطلق على الحي الذي يسكنه الأخير، نظراً إلى قربه من "وادي إسيلَ"، الشهير..
هناك، اعتدْنا على أن نجتمع لنلعب الورق ونُزجيَّ قسطاً وافراً من حيّز مساءات تلك التسعينيات الجميلة. وعلى إيقاع موسيقى صاخبة، كنّا نتحدث عن الدراسة والفتيات وفريقنا الكروي المُفضّل، ونحن نُدوِّن يومياتٍ غيرَ مرئية من مسلسل "ضياعنا"، الذي كان في أيامه الأولى..
28- مِنـْحة ٌبطعْـم المِحْـنة..
من بين الأمور التي ترتبط بذهن أيّ طالب مغربي ما يصطلح عليه "المِنْحة".. دراهمُ معدوداتٌ كان يضحك بها "القيّمون" على الشأن التعليمي في بلادنا على ذقون الآلاف والآلاف من "الطلبة"، على امتداد مباني الجامعة في مدن الوطن...
بنهاية الثلاثة أشهر الأولى، لاح موسم "موسم الهجرة" إلى خزينة الدولة لاستخلاص منحة بحجم الهُزال وطعمِ المرارة.. صفوف وصفوف من الطلبة، المتطلّعين إلى حفنة من الدراهم. كان الطابور يتشكّل، في البدء، من عدد محدود ممّن "أبْكَروا"، حتى يكونوا في المقدمة. مع مرور الدقائق، كانت الأمواج البشرية تتقاطر ويشتدّ اللّغطُ والزّحام والتدافُع. حينها، كان البعض "يتطوعون" لتنظيم الصفوف، عن طريق منح كل طالب على حدة رقما خاصا به. ومع تزايد أعداد الطلبة، يطول الطابور المنتظِر ويطول، إلى أن ينتهيَّ ما يُشبِه شكلَ "ثعبان" عملاق، رأسُه عند الشباك، حيث توزَّع المِنَح، أما ذيله فقد يمتد ليصل إلى خارج أسوار الكلية، في انتظار القبض على المِنْحة /المِحْنة..
لم يكن مبلغ المنحة يكفي حتى لتبرير كل تلك الساعات التي نمضيها واقفين في طابوريْن ممتدّين، واحدٍ للطالبات وآخرَ للطلبة، تحت سياط الشمس اللافحة. كان "النظام"، الذي يتطوع البعض لفرضه علينا، يقضي أن ننتظم في صفّين متوازيين وينتظرَ الواحدُ منا إلى أن يسمع اسمه ورقمَه المسجَّليْن، قبلاً، في لائحة مخصصة لذلك..
سياط الشمس الحارقةُ، التي تكون فعلت فعلتها برؤوسنا، على امتداد ساعات الوقوف على أعتاب الخزينة لاستجداء "صدقة" الدولة تلك، تتركنا في حالةِ "دوخةٍ"، نَحار معها حول ما سنفعله بهذه "المحنة"، كما كنا نُسمّي، تشفّياً، منحتَنا، "النحيفة"..
لذلك، عندما يحين دور أحدنا ويتسلم مبلغ الـ665.10 درهما، يشمُت بنفسه ويلومها، في أحسن الحالات: لم يكن المبلغ يستحق كل هذا التهافت والتزاحم وهدر الكرامة تحت سياط الشمس والانتظار.. عدا وجبة دسمة مشترَكة تناولتُها، رفقةَ من تبقوا من عناصر الشلة في الساحة العتيقة ونحن في طريقنا إلى منازلنا، وعدا سروال "دْجينْ" اقتنيتُه من إحدى القيساريات المحيطة بـ"جامع الفنا"، لا أذكر أن مبلغَ منحتي الأولى نفعني في شيء آخر..
على أن موقف عبد الإله و"تصرُّفَه" في إحدى منحه، خلال ذلك الموسم الجامعي، البعيد، كان الأغربَ وشكّل لحظةً انحفرتْ في ذاكرتنا جميعا.. قصد معنا إلى ساحة "جامع الفنا". سار في اتجاه مُعيَّن، يبدو أنه كان قد حدّدَه، جيدا، من قبلُ. دلف إلى أحد المتاجر المتخصصة في بيع الأحذية الرياضية. تناول عبد الإله أحد الأحذية وقاسَها على قدميْه. وعندما وجد المقاسَ الذي يُناسبه، تَخلَّص من حذائه، القديم، وانتعل زوج الأحذية الجديدَ. أخرج المنحة من جيبه (665 درهماً) ودفع بها إلى البائع. طلب كيسا بلاستيكيا، دسّ فيه الحذاءَ، القديم، وغادر المتجرَ، ونحن من خلفه لا نفقَه شيئاً مما يجري..
أفهمَنا، مُقهقهاً، كما عادته، أنه كان قد اتّفق مع البائع على القدوم لشراء الحذاء الذي يساوي، بالضبط، مجموعَ قيمة المنحة. "أما هذه القطعة، المتميّزة، فسأحاول الاحتفاظ بها، ما أمكن، كتذكار خاص عن محنتي الجامعية".. قال ذلك، وهو يُشهِر في وجوهنا الـ10 سنتيمات، المُتـبـقـّيـّة..
29- ديما بارْصـا.. عُـنـْوان لأمْسيّـات الزّمـن البَعيـد..
في مساءات السبوت والآحاد، لا شيء كان يعلو على متابعة مباريات فريقنا المفضَّل، ضمن فعاليات بطولة الجارة إسبانيا..
مقهى "Les Arcades" احتضنتْ، كما غيرِها، لحظات فرجة ممتعةٍ، خصوصا حين يلتقي الغريمان.. تعرفون اسمَيْهما، على الأقل!؟ هما ما زالا يضمنان متنفَّساً من الفرجة الكروية، الراقية. ما زالا يُنسيّان جمهورَ المغاربة خيباتِ بطولتهم، المتعثرة.. اسمهما الـ"بارْصا" والـ"ريالْ"..
الحرية التي استطبْنا "ملذّاتِها"، بعد ولوجنا الجامعة، دفعتنا إلى التّجرُّؤ على طرق أبواب عوالمَ ظلت، قبل ذلك، مستعصية ومستغلِقةً علينا.
غرفة جواد العلوية، شبه المنعزلة عن مسكن ذويه، كانت منطلَقنا للتخطيط لكل "مشاريعنا" و"مغامراتنا"، التي لا تنتهي.. في تلك الغرفة، وعلى إيقاع موسيقى شعبية صاخبة، كنا نتعلم أبجديات الإيقاع بأنفسنا في تجارب ورهاناتٍ غيرِ محسوبة العواقب.. وعلى طاولة لعب الورق (الرامي) الذي كان هوايتَنا المشترَكة، كانت تتفتّق عبقريةُ بعضنا عن أفكار غرائبية ما نفتأ نبادر إلى الخطط الأولية لتطبيقها على أرض الواقع، ليتواصل مسلسل "شغبنا"، الجميل، الذي كنا قد بدأنا فصولَه الأولى في أقسام الثانوي...
وفي ما يُشبه الحنين إلى الأيام الخوالي، كنا، عند حلول السادسة من مساء كل يوم، نحرص على اتخاذ موقفنا، المعتاد، أمام ثانوية يوسف بن تاشفين، في انتظار مرور "موكب" الفتيات، اللواتي تطرُدهنّ بواباتُ الثانويات والإعداديات، القريبة، لنُمارس هوايتَنا المفضَّلة: مشاكسةَ "الحمائم" وإمطارَ أسماعِهن "بما تجود به القرائح" من جميلِ الكلام ومعسولِه.. وعند ابتعاد طيفِ آخرِ واحدةٍ منهنّ، كنّا نَعمَد إلى ركوب دراجاتنا الهوائية، لننطلق في جولة مسائية عبر شوارع المدينة الحمراء..
وأيّاً كان مسارُ جولتنا.. أيّاً كانت المسافة التي نقطعها، فقد كنا، دوماً، ننتهي إلى منزل جواد، بعد أن يتخلص كل واحد منا من دراجته، تجنُّباً لمزيد من الحرج مع والدة صديقنا، التي، لِسِعةِ قلبها ورحابةِ صدرها، لم نكن نعرف ما نقول أو نفعل ونحن ننحني على يدها، نُقبِّلها، قبل أن نصعد الأدراجَ، في خفة، هروباً من طيبوبة وصفاء هذه السيدة العظيمة.. كانت كلُّ "قْفوزيتنا" ومظاهر شغبنا، الصارخ، تذوب وتتلاشى في حضرتها، الجليلة..
داخل الغرفة الدافئة، كنا نتسابق على الارتماء في أماكننا المعتادة، لنشرع في اللعب، على إيقاع الموسيقى الصاخبة، ونحن نتلذّذ برشف كؤوس الشاي وقَضْم قِطع الحلويات، التي كانت "للا لْكبيرة" تبرَع في إعدادها ولا تتوانى في استقبالنا بها، عشيةَ كل يوم، من ذلك الزمان، البعيد والجميل..
30- من أجْــل الحَـرْف.. كُـلّ ُشيء يَهُـونْ..
بحلول شهر مارس، كانت أجندتُنا اليومية، "الجامحةُ"، تشهد بعض التعديلات، حتى تواكب فترة الاستعداد للامتحانات، التي يبدأ "شبحُها" في الإعلان عن نفسه، يوماً عن يوم.
خلال هذه الفترة من الموسم الجامعي، يبدأ الطلبة في إعداد العُدّة لمُواجهة هذا "الشرّ الذي لا بدّ منه"، الذي يزحف نحوهم، مُخيفاً بعضَهم، دافعاً إياهم إلى إعادة حساباتهم وترتيب الأولويات..
في الأثناء، كنتُ أقطع علاقاتي بشخوص الروايات والقصص مُكرَهاً، في كل الأحوال. أنكبُّ، بحماسة، على "نَسْخ" ما تبقّى لي من المحاضرات، ضارباً عصفوريْن بحجر: وأنا أنقل تلك المحاضرات إلى دفاتري، أتوقّف عند فقراتِها، أُركّز على "الخطوط العريضة" لكل درس، وأنا أطرح إشكالياته، في محاولة لإيجاد مَنْفَذ إلى "قراءة" ثانية، ممكِنةً، قد تنفعني، في ما بعدُ، في التعامل مع بعض الأسئلة..
ولن يستوي الحديث عن الاستعداد للامتحانات الجامعية أبداً، دون التوقّف عند تلك الفترات، الممتدّة، التي كنا نقضيها ونحن "نلُوك" بعض المحاضرات ونعمل، ما في وسعنا، حتى "نركن" سطورَها في مكان من الذاكرة... ساعاتٌ، ممتدَّة على طول النهار والليل، كنا نُمْضيها وأعيُنُنا وعقولنا مُركِّزة على السطور وعلى "مضغ" حروفها، المتتالية، بالآلاف والملايين. وطريقة الطلبة في "حفظ" دروسهم موضوعٌ آخرُ يحتاج إلى عديدِ صفحاتٍ.. البعض كانوا لا تحلو لهم "لْقراية" إلا وهم يَذْرَعون المكان ذهاباً وجيئةً، دون توقف أو ملل.. البعضُ الآخر إذا لم يستوُوا، جيداً، ويفْترشوا الأرضَ، فلن يدخل حرف واحد أدمغتهم.. هناك، أيضاً، من يُشكّلون "ثنائيا"، ثلاثياً أو غير ذلك، وهم يناقشون، في ما بينهم، كل صغيرة وكبيرة من المحاضرات..
وإذا كانت رحابُ الجامعة تحتضن فترةَ الاستعداد، خصوصا في بداياتها الأولى، فإننا مع تباعد حصص الدروس، المتبقية في برنامج الموسم، نبدأ في ارتياد أماكنَ أخرى، أرحبَ، للتهيّؤ "للغول" القادم... وتكون الفضاءات الخضراءُ ملاذَنا لأجل ذلك. ثم، عندما نحضر آخرَ محاضرة ولا يعود هناك ما يُرغمنا على الذهاب إلى الجامعة، كانت هذه الفضاءات والحدائقُ العموميةُ تتحول إلى ما يشبه جامعة مفتوحة تعُجُّ بالطلبة من كل التخصُّصات والانتماءات..
شخصيا، يستحيل أن تدخل فقرةٌ واحدة من تلك "المحفوظات" عقلي وأنا جالس! مساحاتٌ ومساحات أقطعها، إذن، في الغدوّ والرواح، في الرواح والغُدوّ.. ولأن "الظروف" لم تكن تُمهلنا لاختيار الأوقات التي نُباشر فيها الاستعداد، فقد كانت الطبيعةُ تُجرّب فينا كلَّ تقلّباتها الجوية والمناخية..
وما دامت الفترةُ تُصادف أيامَ الصيف، القائظة، فقد كانت جلودُنا، المسكينة، تُجلَد لمئات الدقائق تحت الأشعّة اللّاهبة على امتداد أيام من "التهيُّؤ للامتحان"!..
وبين مَن يطاردون إشكالياتِ ونظريات الأدب، المأثورةَ، ومن يُلاحقون بُنودَ ومساطر القوانين، الشرعيِّ منها والوضعيّ.. بين مُعادَلات وتفرُّعات متتالياتِ الرياضيات والفيزياء، وبين دروس البيولوجيا وشقيقتها الجيولوجيا.. تتقاطع صفوفُ جيوش من الطلبة وتتوازى، جيئةً وذهاباً.. وبين فقرة وفقرة من المقروء، فاصلٌ واحد، شعارٌ وحيد: "كلُّ شيء يهُون من أجل الـْ"حَرْْفْ"!..
31- لحْـظـة ُالْحَـقـيـقـة..
الثامنة صباحاً. عاينتُ رقمي وجلستُ. على بعد مسافة محترَمة مني، جلس إلى نفس طاولتي طالبان. أحدُهما إلى اليمين والآخر على يساري. المُدرَّج "مدجَّج" بالأساتذة، للمراقبة. وَزّعوا علينا أوراق الأسئلة وأوراقاً للتحرير بألوان مختلفة وأخرى "للوسخ".. وفي صمت جنائزيّ، بدأت اللحظات الأولى لمواجهة الحقيقة..
31- لحْـظـة ُالْحَـقـيـقـة..
الثامنة صباحاً. عاينتُ رقمي وجلستُ. على بعد مسافة محترَمة مني، جلس إلى نفس طاولتي طالبان. أحدُهما إلى اليمين والآخر على يساري. المُدرَّج "مدجَّج" بالأساتذة، للمراقبة. وَزّعوا علينا أوراق الأسئلة وأوراقاً للتحرير بألوان مختلفة وأخرى "للوسخ".. وفي صمت جنائزيّ، بدأت اللحظات الأولى لمواجهة الحقيقة..
سؤالٌ، أسئلة، قلمٌ وورقة فارغة وبياضٌ يتحدّى.. هنا تعمل الذاكرة على "إملاء" ما خزّنته، على امتداد أيام وأشهر، على الدماغ، الذي يُصْدر، بدوره، الأوامرَ للأصابع أن تُواجِه الأسئلة، المستفزّة. معركة حامية تندلع بين الكلمات والجُمَل والتّراكيب حول من منها الأجدرُ بالبقاء على صفحة الورقة.. ما لم يصمدْ منها، يكون مصيرَه الحذفُ والتّشطيب، يَعقُب ذلك "الإقصاء" من الحضور في ورقة التحرير النهائي..
ثلاث ساعات كانت، في العموم، هي المدة المخصَّصة لكل اختبار على حدة. اكتفي البعض بالمكوث للَحظات، قبل أن يُوقِّعوا في الورقة ويُقدّموها للحراسة وينسحبوا في هدوء... يفعلون إما لأنهم لم "يُقمّروا" على المادة "الصح".. لأنهم لم "يُعوّلوا" على نوعية الأسئلة المطروحة.. أو لأنهم، ببساطة، حضروا فقط من أجل التوقيع، ولا شيء غيرَه، ولكلٍّ سبب..
لم تكن تُوقفني إلا صعوبة البدايات، كما عادتي، في مواجهة أي ورقة فارغة... بعد اجتياز عَقبة البداية، كنتُ أسترسل في تدوين إجاباتي، حسب ما "بقيّ" في ذاكرتي. قد تكون معلومات استوعبتُها وأستطيع، اللحظةَ، أن "أُركّبها" في صياغة خاصة ووفق منهجية تحليلية أو نقدية واضحة، أو قد أكون حفظتُها "عن ظهر قلب"، لا لشيء، سوى لأعيدَها إلى صاحبها، أحيانا (بالنقطة والفاصلة)، وفاءً للمأثورة الشائعة "بضاعتُكمْ ردَّتْ"..
طولُ مدة الاختبار والحَرّ الشديدُ دفعانا إلى مغادرة أماكننا إما للشرب أو لتبليل رؤوسنا، المحمومة، أو لتدخين سيجارة علَّ دخانَها يأتي بالفرَج... بعضُ الطلبة يغادرون أمكنتَهم ويتوجّهون رأساً إلى المراحيض البعيدة. معظمُ هؤلاء "لا تكون نواياهُم حسنة"، في الغالب.. الحراسةُ اللصيقة التي تفرضها لجنةُ المراقية تدفعها إلى "تأمين" شخص يُرافق الطالبَ بمجرد ما يُغادر طاولةَ الامتحان. وكان رجال "الأَواكْس" من يتكفّلون بهذه المهمة، في كثير من الأحيان..
ورغم "شطارة" الأواكسي و"حذقه" المفترَض، كان البعضُ يُفلحون في التلاعب برقابته، لمطالعة بعض "الحْروز" الخاصة، التي تكون قد خُبّئت في مكان من المرحاض أو تكون، ببساطة، محشوةً في إحدى ثنايا ملابس الطالب! وفي لحظةِ غفلةٍ من الحارس، "المُشَلغَم"، كان بعضُ "القافْزين" يتمكّنون من إلقاء نظرة سريعةٍ، لكنْ متفحّصةٍ، على حروزهم و"تَلَقُّف" خيط البداية للسؤال الذي تركوه ينتظر قدومَهم داخل المدرّج أو القاعة، المحروسة والحارّة... كما كان البعض يُحدّدون بينهم مواعيدَ مسبَقة في هذه المراحيض، "للتداول والتشاور" حول الأسئلة وتبادُل معلومات سريعة تقطعها تنبيهاتُ "الأواكسي" بأن "الكلام ممنوع إلى أن يدقّ جرسُ انتهاء الامتحان"..
32- وتشبّثَ غـريـقٌ بالغـَريـقْ..
في اليوم المُوالي، نستيقظ متأخرين، نسبياً. اليومُ هامشُ "راحة" نسترجع في فترته الصباحية أنفاسَنا من "اختبار" اليوم السابق. وابتداء من النصف الثاني للصباح، كنا نشرع في "غزو" الفضاءات الخضراء، لتقليب صفحات المحاضرات التي سنُمتحَن فيها في اليوم الموالي..
نتناقش، أيضا، حول الأسئلة وطُرُق إجاباتنا عليها. نستحضر بعضَ المواقف والاستثناءات التي شهدها اليوم الأول. نتأكد من "الحالات" التي ضُبطتْ وهي "تتناقل".. ونتذكّر موقفَ البعض، وهم يتصبّبون عرقاً بعد ضبطهم "مُتلبّسين"..
مرّ اليومان المواليان بشكل عادي، لولا أنه.. في اليوم الثالث، كان عليّ أن أكون طرفاً في عملية "النّْقيلْ"، بعد أن تعرّفتُ، وأنا في الطريق إلى الاختبار الزّوالي، على "صديق" لـ"صديقي".
كان، وفق رقمه الترتيبيّ، يجلس خلفي مباشرة في المدرَّج! ولأنه لم "يحفظْ" أو يستعدَّ للمادة تلك، فقد "توسَّط" له "صديقي" لديّ وطلب مني أن "أعتقه" ببعض ما قد تجود عليّ به الذاكرة أمام السؤال المطروح، خصوصاً وقد كان معروفاً عني أني من "المُراهنين" على مادة دراسة المناهج الأدبية على امتداد السنة..
منذ ولوجنا المدرّجَ ذلك الزوال و"صديق صديقي" يُذكّرني بألا أنساه! عندما ألقيتُ نظرة على السؤال الرئيسي، ارتحْتُ كثيراً وأيقنتُ أني سأُوقّع على يوم مثالي.. كان السؤال مأخوذاً من التمهيد، الذي قدّم به الأستاذ لمجموع محاضراته التي ألقاها على مسامعنا على امتداد الموسم..
لأول مرة، قلتُ في قرارة نفسي، لن أُلاقيَّ صعوبة البداية أمام بياض الورقة، المستفزِّ لقدراتي، دوماً.. لكنَّ تفكيري في ضرورة "إنقاذ" ومساعدة "صديق صديقي"، الجالس في وَقارٍ "مستعطِفٍ" في انتظار التفاتتي المأمولة نحوه.. كل هذا وما قد يترتّب عنه من نتائج شكّل عائقا أمام قضائي يوما "سهلا"..
لم أقرأ السؤال سوى مرتين أو ثلاثٍ. تأكّدتُ سريعاً من أن الأمر يتعلق، فعلا، بالتمهيد وليس بشيء غيره.. وتسارعت السطور فوق ورقة "الوسخ"، بسلاسة.. بدون كثيرِ توقفاتٍ..
وفي لحظة منفلتة من عُقال الزمن، "الحار"، داخل المدرّج، التفتّ، أخيراً، نحو "الغريق"، الجالس خلفي و"أعتقْتُه" بورقة تتضمّن المعلومات التي أوردها الأستاذ المحاضر في "مقدمته"..
بعد هذه "الفعلة"، الجريئة، مني، غرقتُ في ما يشبه دوخةً طارئة وسيولُ العرق تغسل أطرافي! تَشوَّشَ تفكيري وتضبّبت الرؤيةُ أمامي... طفتُ بناظريَّ على المدرّج وعلى أماكن تواجُد أساتذة الحراسة، المنتشرين في زوايا القاعة الفسيحة، أستطلع ردودَ أفعالهم. ولمّا لم يظهرْ على أحدهم ما يشي بكونه قد تنبَّه إلى ما حدث، استرجعتُ بعضَ هُدوئي وبدأت أحاول استعادة فقرات التمهيد من "أرشيف" ذاكرتي... لكنْ، للحظاتٍ، بدا أن كلَّ شيء قد انمحى! وهجمتْ عليّ الأسئلة: "ماذا فعلت؟ افرضْ أن أحدَ الأساتذة لمح حركتَك، غيرَ محسوبة العواقب؟! ثم ماذا لو أنهم أوقفوك عن مواصلة الامتحان، وربما لسنوات؟ فيمَ كان سيفيدك "صديق صديقك هذا؟!..
بعد وقت ليس باليسير وأنا على هذه الحال، استرجعتُ الخيط الناظمَ. انكببتُ، من جديد، على تحرير الجواب، لحسابي، هذه المرة! اكتفيتُ بتغيير أسلوب عرض الموضوع وطريقة صياغة الجُمَل والتراكيب. أما المضمون، فقد "ردَدْتُه"، كما هو، إلى منتظر "بضاعته"!..
33- "وحْـشٌ"
يضبط إيقاعَ الشّـفويّ..
بنهاية اليوم الأخير من الامتحانات، زاح "الحمل الثقيل" عن الأجساد المكدودة. سباقٌ من نوع آخرَ ندخله وقد أنهيْنا الامتحانات، خصوصا خلال الأيام الأولى الموالية: نتنافس في وتحطيم الأرقام القياسية في عدد الساعات التي نُمضيها ونحن نيام... ساعاتُ نومٍ طويلةٌ كنا في أمسّ الحاجة إليها. الغاية إعادة بعض "التّوازُن" إلى نظام حياتنا. نظامُنا الغذائي، بدوره، يكون قد تعرّض، خلال فترة الاستعداد للامتحانات، لتعديلات اضطرارية تستلزم منا، بعد ذلك، عمليةَ "تقويم" عاجلةً، علّها تتدارك عاداتِ الأكل والشرب، السيّئةَ، التي عوَّدْنا عليها أجسادَنا، المسكينةَ، طيلة فترة الاستعداد..
الجوانب النفسية والعاطفية أيضا تكون قد "تضرّرت" بفعل تلك الفترات الحرجة من "حرمان النفس"، الذي تتفاوت درجات تطبيقه وإلزام الذات به من طالب إلى طالب ومن طالبة إلى طالبة..
بعد أيام الخمول ومحاولة "تدارك ما فات"، على أصعدة مختلفة، نعود إلى "التّسلُّح" بدفاترنا وأوراقنا، استعداداً لفترة الاختبارات الشفوية.. اختباراتٌ نشرع في الاستعداد لها، وكل يُمنّي النفسَ بأن تكون الألطافُ الإلهية قد شاءت له أن يُعلَن "ناجحاً" في الاختبارات الكتابية! البعض من الطلبة، الذين يُساورهم الشّكُّ في النجاح المأمول من الجميع، كانوا يعمَدون إلى فتح المحاضرات التي قد "يُحكَم" عليهم بـ"إعادتها" عند إعلان النتائج... دورة استدراكية تنتظر، في المنعطف بين الاختباريْن الكتابيّ والشفاهيّ، كلَّ من خانتْهُم الذاكرةُ، بشكل من الأشكال، في الامتحانات الأولى..
الامتحانات الشفوية بالنسبة إلى طلبة السنة الأولى، شعبة الآداب العربية، كانت تتمحور حول شخص أستاذ واحد شكَّلَ، على امتداد سنوات، "كابُوساً" حقيقيّاً لأفواج الناجحين في الامتحانات الكتابية. كان احتمال "السقوط" بين يدَي الأستاذ "الذي لا يرحم" يعني، بالضرورة، تضاؤلَ الحظوظ، إلى أبعد الحدود، في الانتقال إلى الصفّ المُوالي..
اعتاد ذلك الأستاذ ممارسة نوع من "الاستبداد" بالرأي وطرْحِ أنواع وأشكال غريبة من الأسئلة على طلبته، الذين كانوا يتحولون في اختباره الشفوي إلى "حملان وديعة"، مَهْما تكُنْ درجاتُ اعتدادهم بأنفُسهم على امتداد الموسم... قد يطرح عليك سؤالا تعجيزيّا أو يكتفي بالإشارة إلى أنك لن تنتقل إلى القسم الموالي وكفى!.. لا لشيء إلا لأنك "ما تزال صغيراً في السن"، مثلاً، أو "لأنك لستَ مؤهَّلا إلى ذلك الانتقال"، لسبب لا يعرفه إلا هو، شخصيا!... وحتى إذا "سخنت الدماءُ في رأسك" جراء أسئلته أو ملاحظاته، الاستفزازية، وانتفختْ عضلاتُك أمام هذا "المُستبدّ"، فإنه لا يتأخر في التلميح إلى أنه على استعداد لهذا الخيار، أيضا، إذا ما جالَ في خاطرِك... فقد كان يُعقّب على رفض واحد من الطلبة طريقتَه، الفجّة، في تقصُّد "إسقاط" مَن يريد بأنّ بإمكان الطالب، "المظلوم"، أن يُحدّد مكاناً وزماناً يختارهما في حالة ما إذا كان يرغب في "مبارزة" أو مواجهة جسدية لحل "سوء التفاهم" بطريقة "المواجهة الجسدية"، على وزن "المناظرة الفكرية"، ربّما!..
34- يَضْحـك كثـيــراً..
وفق ما سارت عليه الأمور خلال السنوات الماضية، كنتُ، لا محالةَ سأقع بين يدي الأستاذ/ "الوحش"، كما كان الطلبة يُلقّبونه. فكل من كانت ألقابهم تبتدئ بالحروف الأولى للأبجدية يمُرّون عبْر "سدّ" الأستاذ، المنيع، الذي كان "يتفنّن بوحشية" في إعلاء أسوار هذا السد في وجه المتطلعين إلى نجاح لم يكن يُحققه إلا من رحم ربي، خصوصاً مَن أوقعه حظُّهم العاثرُ بين يدي "فزّاعة الطلبة" ذاك..
خلافاً لِما كان دَرَج عليه الأستاذ من اختيار حروف الترتيب الأولى في تحديد لائحة الطلبة الذين يختارُهُم لكي يمارس عليهم فوقيتَه و"حكرته"، غيرَ المفهومة، اختار في ذلك الموسم الجامعي، البعيد، أن "يتصيّد" ضحاياه من ذيل الترتيب الأبجدي!.. كان ذلك يعني أنني "أفلتْتُ" بجلدي من كابوس مواجهة مباشرة معه... أنا الذي لم أحضرْ أيّاً من محاضراته على امتداد العام..
كانت واحدةً من اللحظات التي جسّدتْ حالةً خالصةً من سُخريّة الأقدار. فبعد أن كان الطلبة الذين تبدأ أسماؤهم بحروف من وسط وآخر قائمة الحروف الأبجدية يُذكّروننا، كلَّ يوم وكلَّ ساعة، بختميّة مواجهة "طغيان" ذلك الأستاذ إنْ نحن أردنا الانتقال، مثلهم، إلى القسم التالي، انعكست الآية، تماماً، ودون سابق إنذار..
لم يُعلَن عن التقسيم، الذي خالَف كل التوقعات، إلا في زوال اليوم الذي سبق الاختبارات الشفوية.. عاش طلبة السنة الأولى لحظات صعبةً ووجدوا أنفسَهم يتخبّطون في إشكالية ترتيب الأولويات و"إعادة جدولة" أجندة الاستعداد للمواجهة الشفوية المباشِرة، المرتقبَة بينهم وبين الأساتذة الممتحِنين... فالذين استعدّوا منهم لمواد محدَّدة وجدوا أنفسَهم -تبعاً للتقسيم المستجدّ- ملزَمين بتبادل الأدوار مع أقرانهم، الذين استعدوا، بدورهم، للمواد التي رجّحوا أن تقودهم إليها "القرعة"، التي شاءت، خلال ذلك الموسم البعيد، أن تقلب فيه الأدوار..
انتقلت "الخلعةُ" التي كانت قد استبدّتْ بنا مع قرب المواجهة الشفوية إلى المعسكَر الآخر من الطلبة، الذين لم يكونوا -قبل إعلان التقسيم- يُفوّتون مناسبَة لتذكيرنا، شامتين، بما ينتظرنا من مصير غامض أمام "جثة" و"دماغ" الأستاذ، المخيفَين... اختلّتْ موازينُ "الفرجة" وأصبحنا، نحن، مَن نتضاحك على مَن كانوا يفعلون بنا ذلك من قبلُ..
وبدا لي النجاحُ في السنة الأولى قريباً جداً. كان علي فقط أن أركّز على مراجعة دروس أساتذة الشفوي الذين استبعدْتُهم، في البداية، من دائرة مراجعاتي، وإن كنتُ، في الحقيقة، قد حرصتُ، من باب الاحتياط، على إلقاء نظرات متباعدة على محاضرات هؤلاء، خلال فترة الاستعداد القبلي للامتحانات الشفوية.. مَن يضْحـك أخيـراً..
35- في سَنتِـنا الجامعيّـة الثـّانيّـة..
لأنّني لم أكن "وجهاً مألوفاً" داخل قاعات ومدرّجات الدروس والمحاضرات في الموسم الأول، لم يُفلح الكثير من الطلبة الذين "جاورتُهم" في إخفاء مفاجأتهم وهم يرونني إلى جانبهم على مقاعد السنة الثانية..
ومثلَ الموسم الذي سبق، اكتفيتُ بالمحاضرات الأولى لأرسم خريطةَ طريقٍ خاصةً بالموسم الجامعيّ الثاني. كان عدد المُسجَّلين في قوائم السنة الثانية أقلَّ، بالنظر إلى "بقاء" أعداد كبيرة من الطلبة في السنة الأولى، التي اضطروا إلى الإقامة الجبرية بين أقسامها، لأسباب تختلف من طالب إلى طالب ومن طالبة إلى طالبة..
حتى ملامحُ الطلبة باتتْ تترسّخ أكثر وترتسم قسماتُ الوجوه بشكل أوضحَ في الذاكرة! وعلى نفس الوتيرة، ابتدأ موسم جامعيٌّ آخرُ في درب الحصول على شهادة "لاليصّانصْ"، المأمولة..
علاقتي بالكثير من أساتذة الإعدادي والثانوي شهدتْ نوعا من الاستمرارية. لم تمنعني إكراهات الجامعة من الحفاظ على بعض العلاقات على هذا المستوى. والحقيقة أن أولَ ما كان يحكم على مسار الطلبة الجامعيين بالنجاح أو بالفشل في دراساتهم هو مدى محافظتهم على هذه العلاقة مع أساتذتهم القدامى أو قطعهم دابرَها..
وإذا كان أساتذة الجامعات يُلقُون محاضراتهم وسط حشود من الطلبة وينسحبون في هدوء حتى يحين موعد المحاضرة القادمة، فقد كانت إمكانية التواصل بينهم وبين عموم الطلبة صعبة بالمقارنة مع غيرهم من أساتذة المراحل السابقة. بعض أساتذة الثانوي والإعدادي ربطتنا بهم علاقات إنسانية متينة. كنا نزور بعضَهم في بيوتهم ويستقبلوننا في مكتباتهم الخاصة.. بين أبنائهم وأُسَرهم.. وبين مناقشة جديد الإصدارات وتبادُل الآراء حول آخر النظريات والتوجُّهات في دراسات و"قراءات" الأدب.. وبين اقتراض بعض من هذه الكتب أو السؤال عن إشكالية أو نظرية، توسّعتْ دائرة معارفنا أكثرَ وأضحتْ فُرَصُنا في مواكبة إيقاع الدراسة بين أسوار الجامعة أقوى وأوفرَ..
نتائج السنة الأولى أخلّتْ بحسابات العديد من الطلبة، بعد أن حكمتْ عليهم بـ"إعادة الشريط من البداية"... لكنْ ما دمنا في الجامعة، فلا ضررَ في حكاية الرسوب تلك، والتي كانت تحكُمها معادلاتٌ وزوايا نظرٍ مخالفةٌ لِما كانت عليه الأمور في المراحل السابقة.. لم يعد "تكرار السنة"، إذن، يُشكّل مَكمَناً لحسابات البعض، "الضيّقة"! فوق ذلك، صارت بعض "الوجوه"، من كثرة تكرارها نفس السنة، تُضاهي في الشهرة وجوه المتفوقين والمتميّزين..
ومع مرور الأسابيع فالأشهر، كانت ملامحُ الموسم الدراسيّ تتشكّل، يوما عن يوم، وتكتمل حلقاتُه، المفضية إلى الامتحانات النهائية،. بشقّيْها الكتابيّ والشفوي..
36- تعدّدت أفـْواجُ الخِرّيجين والمَصيرُ؟.. واحـدٌ
في الوقت ذاته، الذي كنا نخطو أولى خطواتنا في مسار جامعي بمستقبل في علم الغيب، كانت أجيال سبقتنا إلى دخول الجامعات تستعدّ لإنهاء مشوارها. وقبل هؤلاء، كان هناك سابقون لهم!.. أفواج "تخرّجتْ" وأخرى في نهايات مرحلة "التخرّج" إياه..
تخرُّجٌ إلى أين؟ إلى الشارع، على الأرجح، ما دمنا نُعاين "نماذجَ" عديدةً من "أسلافنا" يراوغون النظرات وفراغاً مهولاً ومصيراً غامضاً، وهم يجوبون طرقات وفضاءات المدينة. بعضهم يكاد، لكثرة معاناتهم، يتحولون إلى ما يشبه أطيافاً بشرية نخرت "الفقصةُ" أجسادَهم فأحالتها أشباحاً، من شرود وذهول... أما مَن لم يعرفوا منهم كيف "يتكيفون" مع وضعهم، المستجدّ، بعد تخرُّجهم، فقد وجدوا أنفسَهم يشارفون على ولوج عوالم المسّ واللّمَم.. كانوا على أعتاب الجنون، بصريحِ عبارة..
ما عدا بعض الفُرَص التي كانت تلوح هنا وهناك، بعد الإعلان عن إحدى مباريات التوظيف، فيتقاسم مَناصبَها بعضُ اللاهثين أو "المحظوظين"، كانت البطالة تستعلن مصيراً أوحدَ لفئات عريضة من خرّيجين، ما تنفكّ دائرتُهم تتوسّع، عاماً بعد آخر..
وباستثناء الداخلية أو التعليم، اللذين كانا يفتحان بعضَ الأبواب في وجوه حاملي الشهادات الجامعية، لم يكن في الأفق ما يشي بكثير تفاؤل..!
في غياب بدائلَ حقيقية، كان هناك خياران أمامنا: إما أن "نتّعظَ" من "السلف" ونكُفَّ عن أنفسنا عذابَ مطاردة نجاح كان بطعم الفشل في عيون "العُجازين" إلا مَن رحِم منهم ربي، أو نتبنّى "الخيار" الآخرَ المطروح: أن نُواصل مسيرتنا الجامعيةَ بأكبر قدْر ممكن من السعي وراء "النجاح"..
عندما نجحتُ في سنتي الأولى، اعتراني تفاؤل عارم بأن مشوار الدراسة سيكون "ناجحا"، بشكل من الأشكال. السنة الأولى بالنسبة إلى طلبة أقسام الآداب بمثابة عقبة هي الأصعب بين السنوات الثلاث اللاحقة. بالنسبة إلى طلبة الحقوق، كانت السنة الأولى "محطة" من الأحسن أن يقضي فيها الطالب أيامه دون أن يضعَ "النجاح" ضمن أفق تطلُّعاته إلا بنسبة ضئيلة في أحسن الأحوال.. نظراً إلى "تكدُّس" المواد المقرَّرة والطول الخرافيّ لنصوص القوانين والمدونات والتقليعات الحقوقية الأخرى، التي لم نكنْ لنجد الوقتَ الكافيّ لنهتمَّ بها، نحن طلبة الآداب. كان يكفينا ما نحن فيه، ما نحن عليه..
بعد أعوام من "مطاردة" نهايات القصص والروايات، أضحيتُ أميل، أكثرَ فأكثر، إلى "محاصرة شخوص وأحداث لأصهرها في "حالات" مكتوبة أسهَر على تسويدها فوق صفحات وصفحات. "محاولات" كثيرة و"أعمال" مُبدعة (كان هذا رأيي فيها) ضاعتْ صفحاتُها بين "سهو" بعض الزملاء أو الأساتذة عنها في لحظة من اللحظات. صفحاتٌ يُشبه ملؤها بالحروف مخاضَ امرأة تتقلّب وجعاً كي تأتي إلى الحياة بمولود جديد!..
وبقدر ما كان يحُزُّ في نفسي فقداني إحدى إنتاجاتي الأدبية، لسبب من الأسباب، فقد حاولتُ إقناع نفسي بإحدى المقولات ظلّ الأستاذ فؤاد الغرض يُردِّدها على مسامعي، لتهدئتي و"مواساتي" في "ضياع" واحد من هذه الإنتاجات. كان أستاذ العربية يردّد بلسان فصيح: "اعتبرْها مرحلةً.. أحرقتها وواصلْ"..
37- النـّـقـْطة والفاصِـلة وأخـَواتـُهُـمـا..
واصلْنا مشوار الجامعة. وموازاة مع متطلبات هذا المشوار، من تركيز ومثابرة و"صحو" في أوقات قد لا تخطر ببال أو "سهر" إلى منتصف الليالي.. وأحيانا، حتى تطلع شمس اليوم الموالي، كانت لكل منا هوايته (هواياته) التي تفرّج عنّا بعضا من كُرَب السير على درب يقود إلى حيثما اتفق!..
هوايات كثيرة.. بعضها يلامس حوافَّ الغرابة وحدود السريالية وأخرى موغلة في الاستسلام لمُعطيات الواقع. هوايات وانشغالات تتفتق عنه ملكاتنا، حسب خصوصيات واستعدادات الواحد منا وميولاته..
من مقابلات الكرة، إلى قاعات السينما وخشبات المسرح. من الاكتفاء بمتابعة مباريات "لا ليغا" (La ligua) الإسبانية، التي لا يمكن أن يقطع عنا متعةَ مُشاهدتها إلا مرورُ "نسمة" من حدائق الهوى... إلى الانزواء في الغرف المظلمة وملاحقة سطور الحكي بين صفحات الأسفار أو "استجداء" الذاكرة المكدودة علّها تجُود ببعض عباراتٍ أو تراكيبَ تكتسي حُلةً، مِن شكْل ومعنى!..
منذ "درس" الأستاذ الجخش، ذات امتحان، عندما حاسبني على النقطة (.) والفاصلة (،) اختلفت كيفية تعاطيَّ مع أي مقروء، في لغة الضاد على الخصوص..
إذا لم يكن النص (أيّاً كان جنسه) "سليما"، من ناحية الشكل قبل المعنى، فإنه يتعرّض مني، في خلواتي المنتظمة، إلى "تقريع" لاذع وصامت! وشكْلُ النص المكتوب يرتبط بأدوات الترقيم، ضمن محددات وضوابطَ أخرى، كثيرة، تصنع، في المنتهى، نصّاً جميلاً، نصّاً مقروءاً..
أدوات الترقيم (La ponctuation) تأتي -للأسف- في المستويات الدنيا من اهتمامات المسكونين بهُموم الكتابة، في عمومهم. هكذا، قد يُصادفك كتاب جميل، من حيث عمق مضمونه وطريقته في العرض والتقديم، لكنْ.. حين تنتبه إلى النقطة (.) والفاصلة (،) وما يجري في فلكهما، تجدْها قد تعرّضتْ، على امتداد النص المكتوب، لـ"تهميش" أو سوء استعمال مستفزٍّ، في عديدِ حالات..
كان الممتحَنون في الحجرة حيث رقمي الشخصي يتكونون من فوجين. الفوج الثاني كان يُدرّسهم مادةَ الإنجليزية أستاذٌ غيرُ أستاذنا.. إحدى تلميذات ذلك الفوج كانت تجلس إلى الطاولة خلف ظهري، المسكين، مباشرة.. لا أدري كيف عرفت أنني "عْندي ما نْكولْ" في لغة الشيخ زُبير، عفواً، شكسبير! لكنها أمضتْ أوقاتا متقطعة وهي "تغْرز" قلمَها "البيكْ" الأزرقَ في جنبَيْ بطنِي، وهي تستعطفني، بإلحاح مشفوعٍ بمزيدٍ من الوخْز، أن أرحم "ضعفها"، الذي نمّتْ وخزاتُها، المتكررة والحادّةُ لي، على أنه (ضعفها) يصل حدود "تْشْليلة" تامة وضاربةٌ الأطناب..
فوق كل هذا، كانت التلميذة ابنة الحارس العام لإعدادية قريبة وكان لي بها سابقُ معرفة، حيث كنا نسكن، ذات عام بعيد، في نفس الحي. لهذا "كان علي" أن "أنظر من حالها"..
أذكر أنني مرّرتُ إليها أجوبة عن كل الأسئلة المطروحة، من أولها حتى موضوعِ "الإنشاء"، الختامي... أتدْرُون ماذا كانت نهاية الحكاية؟.. ذهبتْ ورقةُ أجوبتها عند أستاذها، "المتفاهم"، ونقّطها 20/18.. وانتهت ورقتي، أنا، بين يديْ الأستاذ الجخش.. وبالكاد، حصلتُ على 20/14..
38- مَن المُخـْطئ.. مَن المُـصيب؟..
38- مَن المُخـْطئ.. مَن المُـصيب؟..
منذ "شمْتة" ذلك الامتحان في الإنجليزية، استوعبتُ، جيداً، الدرسَ الذي أفحمني الأستاذ، من خلاله، بأهمية أدوات الترقيم في النص المكتوب، ولو كان جوابا على سؤال في اختبار.. لا أُنكِر أني ذهبت إلى الأستاذ، محتجّاً، وأنا لا أفهم لماذا "تَشدّدَ" معي في التنقيط إلى تلك الدرجة، مع أن إحدى "كُلْخوزات" الفصل الآخر حصلتْ، بفضلي، على نقطة لم تكن لتصل إليها حتى في أكثر أحلامها إيغالاً في الخيال... وفوق هذا، جاءتْني ضاحكةً، ذات صباح، "تزفّ" إليّ خبرَها، السعيد، دون أن تدري أنها، وهي تُخبرني بتلك البشرى، السعيدة بالنسبة إليها، تزيد من إحساسي بالغبن جراء النقطة غير المتوقعة التي أرفقها الأستاذ الجخش بملاحظة أفاضت الكأس..
أسفلَ ورقة الامتحان، لم ينس الأستاذ أن يُدوِّن الملاحظة التالية: "انظر ورقة" (...) وذكر اسم الصديق الذي اعتاد على "نقل" إجاباتي في معظم المواد، بل وتمريرها إلى "منتظرين" آخرين في صفوف الفصل البعيدة... وأسفلَ ورقة الصديق، كتب الأستاذ نفسَ العبارة أعلاه وختمها بذكر اسمي... لم يجدْ أمامه سوى ذلك، كوسيلة احتجاج منه على كون ورقتيْنا تحمِلان نفس الأجوبة، بالحرف.. وربما بالنقطة والفاصلة!..
ولأن صديقي كان من النوع الذي "يُخْلص" للنص الذي "ينقُل عنه"، فقد اكتفى بوضع اسمه وتوقيعه على ورقة الأجوبة التي نسخها من ورقة تَوصّلَ بها مني، ليخلق لي مع الأستاذ مشكلة كادت تتطور إلى سوء تفاهم كبير، كاد ينتهي إلى واحد من المواقف التي تَخْتلّ فيها كل "القواعد" والضوابط التي كانت تحكم علاقةَ أستاذ -تلميذ..
الأساتذة الذين كانوا في أعمار متوسطة كانوا أقربَ إلى تفهُّم أوضاعنا ومشاكلنا وإيجاد بعض التبريرات لمواقفنا ورُدودنا. كلما زادت المسافة العمرية تباعداً بين الطرفيْن، تفاقمت الأمور بينهما أكثر وتناسلت الاختلافات..
ولأنتا كنا، أيضا، جيلا "فْـشِي شْكلْ"، رغم "النظرة الناقصة" التي كان ينظرها إلينا بعضُ الأساتذة، فقد أظهرنا، في مناسبات عديدة، أننا نستطيع، كذلك، أن نتجادل ونتواصل بطرق "حداثية" مع أساتذتنا!.. استطاع الأستاذ الجخش، على كل حال، إقناعي بضرورة الانتباه، أكثرَ، في المرات القادمة، إلى النقطة وإلى الفاصلة.. على أنه بقي متشبثاً بالنقطة التي أعطاني، رغم أني حاولتُ المستحيل كي أجعله يتراجع عن عناده، خصوصا أننا كنّا في موسمنا الدراسي الأول في الأقسام الثانوية. كان الوضع، في نظري، يستدْعي بعضاً من المرونة. فأنا، قبل كل شيء، كان المرض قد غيَّبَني عن حجرات الدرس لأزيدَ من شهر، وفوق ذلك، أعفتْني الإدارة من اجتياز امتحانات الدورة الأولى من الموسم... لكنّ كل ذلك لم يشفع لي لدى صاحب نظرية النقطة (.) والفاصلة (،) وأخواتِهِما"..
39- أكْـلـة ُالبطاطِـسْ: التـّجربة ُالمغـْربيّـة..
قالت الأم لولدها: كُلِ البطاطسْ! قال الولد: أنا لا آكل البطاطسْ.
قالت الأم للعصا: اضربي الولد! قالت العصا: أنا لا أضرب الولدْ.
قالت الأم للنار: احرقي العصا! قالت النار: أنا لا أحرق العصا.
قالت الأم للماء: أطفئ النار! قال الماء: أنا لا أطفئ النار.
قالت الأم للبقرة: اشربي الماء! قالت البقرة: أنا لا أشرب الماء.
قالت الأم للسكّين: اذبحـي البقرة! قالـت السِكين: أنا لا أذبح البقرة.
قالت الأم للحدّاد: اكسر السكين! قال الحداد: أنا لا أكسر السكين.
قالت الأم للحبل: أَوْثق الحدّاد! قال الحبل: أنا لا أوثق الحداد.
قالت الأم للفأر: اقرض الحبل! قال الفأر: أنا لا أقرض الحبل.
قالت الأم للقط: كُلِ الفأر!..
عند هذه النقطة، توقفت حالةُ العصيان، المستفزّ، والرفض، القاطع، لتنفيذ أوامر "بطلة" هذه القصة الجميلة من زمن مدارس الحكومة... أوامرُ بدأتْها بأمر صغيرها بتناول البطاطس فرفض.
رفضٌ ستحاول الأمُّ إيجادَ حلّ له عبْر مواصلة أوامرها، للناس وللحيوانات وللجماد. إلا أن أيّاً من أوامرها لم يُصادفْ آذاناً صاغية إلا أذنَيْ قطّ متأهّب، دوما، للانقضاض على عدوه التاريخي الأوحد: الفأر!..
هل استلهم بوكماخ هذه الأقصوصةَ، الرائعةَ، من "توم وجيري" أم إن قصتَه هذه هي ما ساعد ذاك "الثنائيّ" المعروفَ على أن يحظَيا بكل تلك الشهرة بين عموم المغاربة؟..
تنتهي قصة الرائع بوكماخ بموافقة القط على الْتهام الفأر، الذي ينقلب رفضه، بدوره، إلى قبولٍ بتنفيذ الأمر، عساه يُفلت بجلده... ومثلَه، تُغيِّر كل العناصر التي قادت الانقلاب الرافضَ أوامرَ الأم، في البداية، مواقفَها، الرافضة، لتتوالى سلسلةُ الرّضوخ، تحت التهديد، ليضع "الولدُ" حدا للحكاية السهلة/ الممتنعة ويقبَل بابتلاع البطاطس، التي لم تُخبرْنا القصة هل هي بطاطس "مسْلوقة" على الطريقة المغربية المعروفة أم إنها بطاطس- "فْريتْ" أو "شيبْسْ" أو شكل آخر!؟..
لأجيال متلاحقة، شكّلت هذه الأقصوصةُ، العجيبة، عنصرا رابطاً بين التلاميذ والطلبة، إلى جانب غيرها من القصص المتواترة، على شاكلة "القرد والنجّار"، "سروالُ علي"، "أحمدُ والعفريت"، "يوسفُ يُمثّل هندياً صغيراً"، "سعاد في المكتبة" وغيرها كثير..
وهكذا.. استطاعت كتب ومقرَّراتُ وزارة التربية، على الأقل، أن تُعرّفنا على إبداعاتٍ في أدب الأطفال، أثبتَ تعلُّقُ ذاكرتنا الجماعية بهذه العناوين النموذجية منه، وبغيرها، أن هذا الأدب يمكن أن يَصْلُح، كذلك، للكبار..
40- شُـكـْري، ربـيـع، بنجـلـّون والآخـَرُون..
من ضمن حسَنات "أكلة البطاطس" أنها رسّختْ اسمَ مُبدعِها ومبدع غيرها من نصوص تلك المقررات، المفتقَدة في زمن تعليمنا المضطرب الراهن. اسم بوكماخ كان جسرَ التواصل بين "طالب العلم" المغربي وبين ثقافته الوطنية..
في مرحلة الإعدادي، ستترسّخ، أيضاً، أسماءُ بعض الكتاب المغاربة الآخرين، وإنْ بأشكال أقلَّ حضوراً. مقرَّرات الطور الإعدادي تغلُب عليها نصوصٌ قادمة، في معظمها، من ثقافة المشرق العربي ومن رائدة هذا المشرق، مصر..
ومع إقرار دراسة المؤلفات كمادة في المرحلة الثانوية، خصوصا لأقسام شعبة الآداب العصرية، استطاعت أسماءُ أخرى الانضمام إلى قائمة الأدباء المغاربة التي يحتفظ بها كل منّا، على حِدة، في ذاكرته الخاصة. ولن يتجادل اثنان حول كون اسم محمد شكري، برائعته "الخبز الحافي"، كان أولَ أديب مغربي يحفر اسمه في ذاكرة الطلبة بعد مرحلة الابتدائي، التي تسيَّدَ عليها، بدون منازع، أحمد بوكماخ..
مبارك ربيع والطاهر بنجلون كان لهما، أيضا، حضور خاص في دائرة اهتمامات المُبتلين بِهَوَس المطالعة ومطاردة العناوين في المكتبات العامة أو الخاصة. على أنّ بعض الأسماء القادمة من المشرق استطاعت اكتساح سوق القراءة في المغرب. جرجي زيدان، بكتاباته ذات الصبغة "التاريخية"، وجبران خليل جبران، بنفَسِه الفلسفيّ التّأملي وقدرته العجيبة على التصوير والوصف. يوسف السباعي ويوسف ادريس.. بإبداعاتهما الروائية والقصصية، المتميزة. محمود درويش، بأشعاره، الخالدة، ونجيب محفوظ، بحبكاته الروائية، المشوقة والطويلة.. وأمل دنقل، بأسئلته الحارقة واستشرافاته السوداوية... كل هؤلاء، وغيرُهم، أثّثوا رفوفَ المكتبات والخزانات بأعمالهم، التي نافستْها في الشهرة والاهتمام مؤلفات الكتاب الغربيين، وخاصة منهم الفرنسيين..
أسماءُ كثيرةٌ وعناوينُ متنوعةٌ مَنحتْنا، على امتداد مشاويرنا الدراسية، المتقاطعة والمختلفة في نهاياتها وتفاصيلها، متعةً كانت تُبعدنا -من وقت إلى آخرَ- عن رتابة وجُمود المقررات والبرامج التعليمية، المُترهّلة..
أكسبني الاطّلاعُ على مدارسَ واتجاهاتٍ فكرية متعددة نوعا من القدرة السَّلِسة على التّعاطي مع أسئلة الامتحانات في كل مراحل الدراسة، التي امتدّت بي، رغم ذلك، أطولَ من اللازم، بحكم أني اضطُررت إلى "السكن" في بعض الأقسام، وخصوصاً في السنة الأخيرة من المرحلة الإعدادية.. وتذكُرون بعضاً من "المأساة"، التي عشتُها في سنوات الإعدادي..
ولأنني ابتليتُ، مُبكّرا، بالمغامرة بحمل القلم ومواجهة بياض الصفحات في أواخر الليالي، فقد كنتُ لا أجد صعوبة كبيرة في تحويل وقائع ومعطيات بسيطة من اليومي المعيش إلى نصوص مكتوبة! وكانت القصة القصيرة عشقي الأولَ وجسري للتعبير عما يختلج في الأعماق..
كان هؤلاء، ولخلق جو من المرح، على مجالس العائلة، يتندّرون بـ"إبداعاتي"، "الشِّعرية"، ويشبِّهونها بأكلة "الشّْعْرية"، التي كانت تحضّرها لنا الوالدة في بعض وجبات العشاء!.. أما "الشِّعرية" والشِّعر فلم يكنْ يربطهما بـ"قصائدي" -والعهدة على أشقائي- سوى الخيرُ والإحسان!..
كنا نستنفر كل أسلحتنا المتاحة لـ"نُحارب" النعاس، الذي كان "يُقاتلنا" أمام صندوق العجب! كانت أجهزة التلفزة وقتَها (تلفزتُنا على الأقل) "صندوقاً" حقيقيا يختار، بعناية، أوقاتاً غيرَ ملائمة بتاتاً لكي يصاب بأعطاب مباغتة وغير مفهومة.. كلُّ ذلك لم يكنِ ليجعلنا نيأس، ولو للحظةٍ، من أمل متابعة أحد سباقات نوال أو عويطة. كما أن البطلين كانا في مستوى انتظاراتنا، فالأُولى كانت "العدّاءة العربية الأولى التي تعتلي منصّات التتويج في بطولة عالمية من هذا الحجم".. أما عويطة فكان الفرَسَ المغربيَّ الأصيلَ، الذي تَسيَّد، بعبقريته وقدراته البدنية والنفسية، مداراتِ سباق المسافات المتوسطة والطويلة.. بعد أن حاز الذهب، رفقةَ المتوكّل، في دورة أمريكا للألعاب الأولمبية، صار يكفي عويطةَ أن يختار المسافةَ التي سيُشارك فيها، خلال أحد الملتقَيات، ليضبطَ المغاربة عقاربَ ساعاتهم على موعد السباق..
كانت أجيالٌ من المغاربة يتصورون أنفسَهم مكانَ ذلك المغربي الذي قهر كل "أبطال" زمانه. من جهته، كان عويطة، وكأنه يستمدّ طاقته من آمال المغاربة، المتعلقة به، يُهدي وطنَه لقباً إثرَ لقب ويُحطّم أرقاماً قياسيةً غيرَ مسبوقة..
ابتعدْ أيها الزمن الرديءُ ودَعْنا نسترجعْ لحظات تألّق مغربي بامتياز!..
أيامَ كان التّيمومي يتلاعب بالكرة كأنها قطعة منه لا تَبْرَح أبعدَ من قدمَيْه، السّاحرتَين.. أيامَ كان بودربالة ينطلق مخترقاً الصفوفَ بمرونة مُحيِّرة، بعد أن يتلقّى تمريرةً محكَمةً من "لْمعْلم" الظلمي.. أيامَ كان البيّاز "جُنديا" بسروال قصير وحذاء رياضي، يقف في الملعب، رافعاً أمام المهاجم شعارَه الأوحدَ: إذا مرّت الكرة لن تمرَّ أنت.. وإذا مرَرْتَ أنت، تخلّلفتْ عنك الكرة..
أحسست بارتباك وضاعتْ منّي الكلمات. لكنني سرعان ما ركّزتُ على الأوراق أمامي وتجاوزتُ مرحلةَ الاضطراب. وعندما انتهيتُ من تقديم ورقتي وتصاعدتْ تصفيقات الحضور، انتابني إحساسٌ غريب وقلتُ لنفسي -شامتاً ربما- "لقد صرتَ شخصاً مُهمّاً يا وْلْد سّي بوجمعة.. تُجالس الأساتذة وتتناول الكلمةَ وسط الحشود الغفيرة"..
وفوق هذا وذاك، كان أبو سلمى "امتحانَنا" اليوميَّ الاختياري لمساءلة ذاكرتنا الفردية والجمعية... كنّا نستذكر كلّ "محفوظاتنا" ونستنفر ملَكات التخزين حتى لا نترك للبياض في خانات "أبي سلمى" مجالاً "ينتقص" منا أو يستصغر مداركنا... كنا نتوحّد حول متقاطعات ومُسهمات "الطبيب النفساني" في لحظات متباينة، لنكسر إيقاع الدراسة ورتابة الاستعدادات للامتحانات، وأحياناً أخرى، كنا نشتري الجريدةَ فقط لكي "نملأ الشبكة" وننتشيَّ بلحظة "انتصار" جماعيّ على "صناع الثقافة العامّة" في شخص الطبيب النفساني، الذي طبقت شهرته الآفاق... ويوما عن يوم، صرنا نتباهى بنيل قصب السبق في ملء أكبر قدْر من خانات الشبكة... الكرة "أفيون الشعوب" والشبكة كانت أفيونَ المهووسين بسراب "الثقافة" وهواة قتل الوقت وصلبه على جدران الخيال والفكر..
كان أول سؤال في القائمة -كالعادة- هو ذكر البحر وإعطاء التفعيلة الخاصّين بالنص الشعريّ موضوعِ الاختبار.. لم أكنْ أُعير السؤالَ، في العادة، كبيرَ اهتمام، نظراً إلى مُعامِله الضعيف على سلّم التنقيط. كانت السيادةُ للتحليل، أي "قراءة" النصّ قراءةً خاصة تربط بين الجوانب الشكلية واستجلاء كُنْه الموضوع الذي تتطارحه القصيدة. وعلى قلة اهتمامي بدراسة الشعر العربيّ وطبقاته ورواده (الفطاحل وغير الفطاحل!) كانت لديّ قدرة جيّدة على التحليل وعرض بعض المقارنات وتطارُح بعض الأسئلة أو الإشكاليات، ثم الختم بإبداء وجهة نظر خاصة (متواضعة) إذا كان سياقُ السؤال يسمح بذلك. لهذا، كانت أسهُمي "طالعة" في سوق بعض الباحثين عن "مُنقِذ" محتمَل في ساعات الامتحانات..
وإنْ هي إلا دقائقُ معدوداتٌ على انطلاق عدّاد الامتحان في ذلك المساء البعيد، حتى كان "ماوكلي" قد كتب اسم البحر و"فصّل" تفعيلتَه على ورقة ودفع بها إليّ، في غفلة من الأستاذين المكلَّفين بالحراسة. كان كرسيُّه يحاذي كرسيَّ في حجرة الامتحان، لذلك سهُل عليه أن "يتواصل" معي بثقة زائدة في النفس، على ما يبدو، إذ انتهتْ تحرُّكاتُه الكثيرةُ إلى لفت انتباه أحد الأستاذين. قام الأستاذُ بجولة في الحجرة، قبل أن ينتهي إلى مقعدَيْنا. كنا نجلس في آخر الصف. مر إلى جانبنا وهو يتفحّص في وجهيْنا وفي أوراقنا فوق الطاولة. فجأةً، تناول ورقةَ وسخ "ماوكلي" وورقة وسخي. دقّق في كل ورقة على حدة وفي ورقتَي التحرير النهائية أمامنا، يقارن بين الخطّيْن..
في تلك السنة، كان عليّ، كذلك، أن أعيش تجربة أخرى فريدةً، وتحديداً في طور الاختبارات الشفوية. كان لزاماً على كل طالب أن يُمتحَنَ من لدُن نفس الأستاذ، "المُخيف"، الذي كان القدَرُ قد أنقذني منه بأعجوبة، في سنتي الجامعية الأولى. كان النظام المعمولُ به في شعبة الأدب العربي يقتضي أن نمُرَّ، جميعُنا، أمام الأستاذ إياه. الذين "نجَوا" منه في السنة الأولى، لا بدّ أن يواجهوا مزاجَه الخاصَّ في السنة الثالثة. لكنْ شتّانَ ما بين السنتين من فوارقَ. في السنة الأولى، كان معاملُ مادته هو 20، مما يعني أنه لضمان النجاح في تلك السنة لا خيارَ أمام الطالب المُمتحَن، إن هو أراد الانتقال إلى السنة الموالية، سوى "إقناع" الأستاذ للحصول على نقطة تُخوّل له ذلك الانتقال..
ما كان مُضحكاً في أمر هذا الأستاذ المرعب أنه كان لا يستطيع نُطقَ حرف الجيم (ج) بشكل سليم.. تملّكتْني رغبةٌ جامحةٌ في الضحك في وجهه من طريقته في النطق.. ورغم أنني فهمتُ أنه يطلب مني تعريفاً للـ"بورجوازية"، فقد نسيتُ، تماماً، أمرَ المطبوع الذي اطّلعتُ عليه وكان فيه تعريفٌ للبورجوازية في ثلاث كلمات... وعندما شرعتُ في التعريف بالبورجوازية كـ"طبقة اجتماعية ظهرتْ، أولا، في أوربا على أنقاض النظام الفيوداليّ وتحكّمتْ في ظهورها عوامل كثيرة و... قاطعني، بانفعال ظاهر، قائلاً:
-البورزوازية.. هيّ.. العِـلـْم، التـّـقـْـنيّة ورأس المـالْ!..
لكنّ صدمتي كانت كبيرة حين رفض الأستاذ المشرف على بحثي الجامعي المرتقَب اقتراحي الأوّلي و"نصحني"، في المقابل، رفقةَ مجموعة من الطلبة وقع اختيارُهم عليه ليشرف على بحوثهم، بأن نفكر في تناول أعمال مبدعين مغاربةٍ محلّيين، عوض المشارقة، الرواد. قطع علينا الأستاذ كلَّ تفكير في دراسة تجربةٍ مشرقية بأن قال إن كل المواضيع والعناوين التي اقترحناها عليه مواضيعُ "استُهلِكتْ"، بشكل كبير، في بحوث طلبة جامعيّين سابقين لنا. كما أن هذه البحوثَ حول المشارقة، في نظره، لم تكن لتفيد في شيء هؤلاء الكتّاب، لأنهم غير محتاجين إلى دراساتنا وأوراقنا الجامعية حولهم، بعكس الكتاب والشعراء والمسرحيّين المغاربة، الذين كان هناك نوعٌ من "التنكّر" لهم ولأعمالهم من لدُن طلبة الجامعات المغربية..
انتهيتُ، في آخر المطاف، بعد كثيرٍ من التحرير وإعادة التحرير، وبعد تصحيحات وتصويبات من الأستاذ المشرف، إلى أن أُقدِّم مادة "مقبولة" عن الرواية موضوع الدراسة... أذكر أن الأستاذ كان قد طلب مني أن أعمل على "تحرير" أوراق البحث الجامعيّ بالقلم الرصاص، وليس بقلمِ حبر.. أتاح له ذلك إمكانيةَ "المحو" والتصويب في الفقرات التي يرى أنها في حاجة إلى ذلك..
41- عْـويـطـَة ونـَوالْ..
ارتبطتْ علاقتي بالكتابة، في بدايات الابتلاء، ببعض "الخواطر" التي كنت "أُدوّنها" هنا وهناك حول بعض الأحاسيس والهواجس الداخلية، التي لم يكنْ ليفهمها غيري.. لم يكنْ لديّ مكان معيّن أحبّ أن "أحتمي" به لكي أكتب. "أُخَرْبِش" على أوراقي حيثما اُتيحت لي الفرصة. "خربَشات" كانت، في عمومها، لا تجُرّ عليّ سوى سخرية إخوتي حين يطّلعون على "كتاباتي" تلك..
ألعاب لوس أنجلس في أمريكا عام 1984 كانت مناسبة لبعض أبطال الرياضة الوطنية (عويطة ونوال) لكي يشُدّوا إليهم أنظار المغاربة حتى ساعاتٍ متأخِّرة من الليل..
عويطة، كان رائعا، مدهشاً. لم يكنْ يكتفي بالفوز بالسباق.. كان يصنع، بموازاة ذلك، "فرجة" من نوع خاص في مدارات العدْو.. لقد كان عويطة يتجاوز جُلّ "العدّائين"، الذين كان يُفترَض فيهم أن يكونوا "مُنافِسين" له داخل المضمار، بدورة كاملة أو بدورتين، قبل أن يعلن نفسَه -مبتسما دوماً- فائزاً أولَ ومطلقاً..
كنا نتسمّر، بالساعات، أمام التلفزيون، كلما نُظِّمت مظاهرة يشارك فيها.. وكان، من جانبه، يكافئ تعاطفنا، شكلاً وخاتمةً. وإذا كان عويطة لوحده مَن كان يعدو، حقيقةً من بين المغاربة في تلك السباقات، فقد كان كل المغاربة ينتشون معه بلحظات الفرح وحمل العلم الوطني في ملاعب العالَم!..
بعد عامين من الزمن على ظاهرة عويطة ونوال، جاء دور رياضة أخرى جماعية، هذه المرة، لتستأثر باهتمام المغاربة: منتخب 1986 لكرة القدم..
42- مِـكـْسـيكـُو 86..
في تلك الثمانينيات البعيدة، كان كل شيء جميلاً.. بعد "ملحمة" عويطة ونوال، جاء دور تشكيلة منتخب الكرة المستديرة ليرسم لوحاتٍ رائعةً على المربّعات الخضراء في المكسيك..
لم يفصل بين الحدثين الرياضيَّيْن لا "تاريخ" طويل ولا "جغرافيا" بعيدة! كانت سنتان من الزمن وبعض الكيلومترات، جنوباً، كلَّ ما فصل بين إنجازات البطلين على مضامير لوس أنجلس وبين منتخب الكرة المغربي، الذي خاض لقاءات في قمة الأداء وفي مستوى التطلُّعات على ملاعب مكسيكو و"ڭوادالاخارا"..
كباراً وصغاراً، تابع عشاق الكرة تلك المقابلات الثلاث التي أهّلتْ منتخب المغرب إلى الدور الثاني من المنافسات، ليُدوّن "الزاكي ورْباعْتو" أسماءَهم في سجلّات التاريخ "كأول فريق كرة قدم عربي وإفريقي يتأهّل إلى الدور الثاني من بطولة كأس العالم..
بعد أزيدَ من عقدين من الزمن، ما يزال المغاربة، ممّن شاهدوا الإنجازَيْن المتميِّزَيْن، يشعرون بـ"نوستالجيا" تشدُّهم إلى تلك اللحظات الرائعة، مع غيرِ قليلٍ من الأسى، عندما يتبادر إلى أذهانهم واقعُ الرياضة الوطنية الراهنُ!..
أمام الزاكي، كانت كل "حداڭة" المهاجمين تنقلب إلى "اختبارات" قاسية لمهارات التهديف، التي قلَّما كان هؤلاء ينجحون فيها. كان بادّو يبدو كمن يزرع رعباً نفسياً خفياً في أدمغة الهدّافين، ليحوِّلَهم إلى مجرّد "مبتدئين" تُضيع كراتُهم طريقَها إلى شباك يحرسها أسدٌ أطلسيّ أصيل..
ومنذ ذلك المونديال البعيد، ارتبطتْ عبارةُ "الأسود" بعناصر تلك التشكيلة، التي أضفى عليها المهدي فاريا لمسةً من سحر البرازيل الكرويّ لتستحقَّ لقب "أسود الأطلس" التي أضحتْ، في زمننا الرديء، تتعرّض لأقسى الإهانات على أعتاب التّأهّل إلى مجرَّد كأس إفريقية، فبالأحرى تأهُّل إلى مونديال أو غيره من الملتقيات الدولية..
43- صُـورة المَسْرود له في "البَـرْزخ"..
سارت الأمور كما ينبغي على مستوى النتائج، خلال الموسمين الجامعيين الأوليْن بالنسبة إليّ. أما على مستوى الأداء، فقد كان بإمكاني تقديم الأفضل لو أنني كنتُ أنضبط لمحاضرات المواد الشفوية..
كانت غياباتي عن هذه المحاضرات كثيرة إلى درجة أن أول سؤال كان يُبادرني به الأستاذ عندما أتّخذ مجلسي أمامه (رفقةَ آخرين) هو لماذا لم أكن أحضر دروسه؟ البعض الآخر من أساتذة المواد الشفوية كانوا يطيلون التحديقَ في صورتي على بطاقة الطالب ثم في وجهي، للتّأكّد من أنني فعلاً نفسُ الشخص..
كان مجموع النقط التي أتحصّلُها من المواد الشفوية هزيلاً، على الدوام، مقارنة بالامتحانات الكتابية! على أن ذلك لم يكن يمنعني من الانتقال، كلَّ عام، إلى القسم الموالي..
في منتصَف السنة الجامعية الثالثة، استقبلتْ شعبة الأدب العربي أحدَ الروائيين المغاربة، ضمن نشاط ثقافي، احتفاءً بصدور روايته "البرزخ". اختارني أستاذ مادة الرواية لأكون واحداً من المشاركين في إحدى صبحيات الاحتفاء بالروائي عمر والقاضي..
ولأنني كنت من المُهتمّين بميدان الرواية وكنت أنوي اختتام دراستي الجامعية ببحث في هذا الجنس الأدبي، فلم يتأخّر الأستاذ في انتدابي، رفقةَ طالب آخر، ليُعدَّ كلٌّ منا ورقة حول الرواية حديثة الصدور. أعددتُ، بمساعدة وتأطير الأستاذ، دراسة حول "صوت السارد في رواية البرزخ". في صباح التظاهرة، كان المدرج يعُجّ بالطلبة والأساتذة. ورغم أنني كنت أتفادى، ما أمكنني، هذا النوع من الأنشطة، فقد وجدتُ نفسي في قلب الحدث. عندما حان دوري لتقديم مداخلتي واتخذتُ مجلسي في المنصّة المخصّصة للمشاركين في الندوة وجلتُ بنظري بين الحضور، هالَني الموقفُ الذي أنا فيه. كان الطلبة ممن تعرّفوا عليّ يتراشقون بالتعليقات والتلميحات الضاحكة. بعضُهم لوّحوا لي بأيديْهم وناداني البعضُ باسمي وحثّني البعضُ على أن "أحمِّر لهم الوجه"..
أعادني إلى الأرض صوتُ الأستاذ المشرف على الجلسة وهو يشكرني على مُنجَزي، قبل أن يفتح باب الأسئلة والتدخّلات. تصبّبَ عرقٌ غزير من إبطي، وأنا أتطلّع إلى الطلبة أمامي، أستعطفهم، بنظراتي، ألا "يُحكِّروا عليّ" بطرح أسئلة مستعصية..
مر كلّ شيء بسلام، عموماً. وكان برنامجُ الأيام الدراسية يقضي بأن نذهب، رفقةَ الأساتذة المشاركين، لتناول وجبة الغداء في إحدى القرى السياحية في أطراف المدينة. كانت تلك ذكرى، من بين ذكريات، جميلة احتفظتُ به في ذاكرتي من أيام سنواتي الأربع التي قضيتُها في جامعة القاضي عياض..
44- سَـلاماً.. "أبُـَو" سلـْمى
طيلة عقود متعاقبة، لم يعرف المغاربة من جرائدهم الوطنية غير يوميتَيْ "العلم" و"الاتحاد الاشتراكي" التي كانت تحمل، في السابق، اسماً أو أسماءَ أخرى. في عقد التسعينيات، الذي عرف بدايات ابتلائنا بمتابعة من يجري من وقائعَ في ربوع المملكة، شكَّلتْ "الاتحاد الاشتراكي منبرَ شرائحَ واسعةٍ من قرّاء المغرب..
بالنسبة إليّ، كنتُ أكتفي بقراءة عناوين المقالات (كمْ كانت مقالات الاتحاد الاشتراكي حارقة!) لأمُرَّ إلى الصفحات الموالية. كنتُ أهتمُّ، بالخصوص، بالأخبار الثقافية والفنية. في ذلك الزمن البعيد، كانت للكلمات معانٍ ودلالاتٌ وكانت الكتابات عروضاً مختصَرةً لقضايا وانشغالات الفئات "المسحوقة".. حتى الكتاباتُ الأدبية كانت مُبطَّنة بقناعات إيديولوجية وخلفيات سياسية واضحة. وبقدر ما كنتُ لا أَفْقَهُ في آداب السياسة، كنتُ مُهتمّاً بسياسات الآداب... أسماءُ "كبيرة" كانت تحتكر توقيعَ الصفحات والملحقات الثقافية، اليوميّ منها والأسبوعيّ.. أسماءُ أحكمتْ حولها سياجاتٍ فاصلةً، عبر عديدِ أجهزة ومنظَّماتٍ ومسمَّيات..
بالنسبة إلينا، كطلبة للآداب، كانت الملحقات التي تتناوب على صفحات الجريدتين "القوميتين" مصادرَ ومراجعَ اختياريةً نستأنس بها ونُحصّن بها "ترسانتنا" المعرفيةَ، التي ما تنفكّ تتّسع وتُطعَّم بمداركَ ومُستجدّاتٍ يتنازع طرفيْها فكرُ آتٍ من الشرق وآخرُ، أكثر حضوراً ووقعاً، قادم من دول الغرب (فرنسا)..
وبين أحاديثَ حول الثقافة والسياسة، بين تبادُل أخبار الرياضة والسينما، وبين استعراض تفاصيل المغامرات الغرامية، توزّعت هواياتُنا وتقاطعت توجُّهاتُنا والمُيولات..
في ذلك الزمن التسعسنيّ الجميل، كانت لنا هواياتُنا التي نُخصّص لها حيّزاً واسعاً من زمننا، الذي كان ينصرم مسرعاً وبلا محطاتِ توقّفٍ كثيرة. كنا نُلاحِق، أيضاً، دعوات هنا وهناك، قادمة من بعض الفرق المسرحية التلاميذية أو الطلابية، التي تنشط غالباً في دُورِ شبابٍ، بئيسةٍ، تُجسّد البونَ الشاسعَ الذي يقوم بين النظرية والتطبيق، والذي دأب الساهرون على شؤوننا الثقافية على تزكيته والحفاظ عليه، حتى صار -أو كاد- "صناعةً" مغربية بامتياز!..
45- اللـّـيْـلُ والـْخـيْـلُ و.. ماوْكْـلي
وسط كل انشغالاتنا واهتماماتنا، كانت "السهرات" الليلية التي نقضيها في فضاءات المدينة لحظاتٍ ضروريةً نتنفّس عبرها هواءً نقياً وندُقّ من خلالها مساميرَ إضافيةً في نعش زمننا المنصرم بلا هوادة وبلا كبيرِ جدوى..
الليليّون" من جيلنا كُثر، ولكل أماكنُ يختارونها وهواياتٌ يُمارسونها. بالنسبة إليّ، كان المشي هوايةً ليليّةً مستبدّة. ولليلِ الحمراء طعمٌ خاصّ يتعذّر على الوصف. أما حين يجد المرء شخصاً مثل "ماوكلي" يُشاطره نفسَ الهواية، فيصير للمقام "مقالاتٌ" أخرى..
كنتُ وإياه بضبط مواعيدَ لقاءاتنا على ساعات متأخرة من الليل. وإذ كانت المدينة تُرسل آخرَ سكانها نحو بيوتهم، كنا نحن نبدأ مسيرتَنا الليلية، المعتادة، التي كانت غالباً ما تنتهي بنا في الساحة العتيقة. وإذ ينشغل ببعض هواياته بممارسة شغبه، اللفظي والجسديّ، الذي لم يكن يعرف حدوداً، كنتُ أسير إلى جانبه وقد أخذتني تهيّؤاتي وخيالاتي الجامحةُ إلى البعيد، رفقةَ شخوصٍ ومواقفَ مبتدَعة أجرِّبُ بواسطتها القفزَ عبر الأسوار العتيقة وأتسلّق نخلاتِ "أكدالَ"، السامقاتِ، التي تُطلّ من خلف الأسوار، في لوحة رائعة يندُر أن تجد لها مثيلاً..
ماوكلي" كان -بالنسبة إلينا نحن مجايِليه- النموذجَ المُعَصْرَنَ والحيَّ لأسطورة حي بن يقظان!... كان شخصاً مدينيّاً في الظاهر، بدوياً في أعماقه، مُوغلاً في الفظاظة و"الخشونة".. خشونة فاجأنا، ذات صباح، في رحاب الجامعة وهو يُعطي واحداً من الأمثلة الصّارخة على شخص "ماوكلي"، الثاوي خلف مظهره الخارجيّ، "الأنيق"... "ماوكلي" كان لقباً خاصاً يُطلقه عليه المقرَّبون فقط... وهذا ما لم تفهمْه إحدى الطالبات المسكينات، وجدتْ نفسَها، في ذلك اليوم، في موقفٍ لا تُحسَد عليه!... كان صاحبُنا محاطاً ببعض أصدقائه يتجاذب معهم أطرافَ الحديث حول إفطار الصباح، عندما دخلتْ إحداهنّ المقصفَ ووقعتْ عيناها عليه. نادتهُ، ضاحكةً: "ماوكلي"! وهي تنظر إلي زميلتَيْها، تبادلهما الغمزات والإيحاءات. لكنْ، يبدو أن مزاج "ماوكلي" كان في أقصى درجات التّعكّر يومَها.. حين سمع لقبَه، الذي لا يعرفه به إلا الخاصةُ من أصدقائه، رفع عينيه صوب مصدر الصوت، ليقع بصره على طالبة يعرفها بالكاد.. وفي أعماقه زأر "الحيوان"، الجاثم خلف الهندام وتسريحة الشعر المتأنّقة.. قام من مجلسه واتّجه نحو صاحبة الصوت، وهو يرسم على محياه ابتسامةً خادعة. وعندما وقفت قبالتًه وهمّت بمواصلة "مزاحها" بمزيد من النعوت والتلميحات، بادرها بسؤال لم تتوقّعْه: "هل تعرفينني؟".. وقبل أن تتجاوز اضطرابَها وتجد جواباً لسؤاله بين كلماتها المتلعثمة، وجّه لها ضربةً بمقدمة جبهته ليُسقطها أرضاً وقد أغميّ عليها..
حدث كلُّ شيء بسرعة، وبشكل مخالِفٍ لكل التوقّعات، إلى درجةِ أن مُجالِسيه لم ينتبهوا إلى ما يجري إلا وهُم يقفون عند رأس الشابة، التي غيّبتْها الضربة الرأسية العنيفة.. عندما أُخبرتُ بذلك، لاحقاً، حمدتُ الله أنني لم أكنْ برفقته وقتَها. فقد كان كثيراً ما "يُجرّب" حماقاته في العديد من الطالبات، ليتركني، أنا، عالقاً في وحل "جرائمه"، العاطفية، التي كان "يقترفها" في حق طالباتٍ، بلا خبرة في الغالب، يفقدْن بوصلةَ التفكير أمام بلاغته اللفظية وخطاباتِه الغرامية، التي لم يكُنَّ ينتبهْن إلى زيفها ومخالفتها الحقيقة إلا بعد فوات الأوان، غالباً..
46- عِـنـْدمـا تـناقَـَـلـْـنـا 2/1
في امتحانات السنة الثالثة حُكم عليّ أن أجلس مباشرة خلف كرسيّ "ماوكلي". هكذا، أبت الأقدارُ إلا أن تُعرِّضني لموقفٍ أكرهه وأمقته: الغش في الامتحان! كنتُ في موقع المتيقّن من أن أمراً ما سيحدث بمجرد ما تم الإعلان عن تقسيم الامتحانات، الذي جعل اسمينا يتتالَيان على اللائحة..
كنا نُمتحَن في مادة تحليل النصوص. وكما يتّضح من تسمية المادة المقرَّرة، كان الأمر يتعلق بنص شعريّ يُمثّل إحدى حِقَب الشعر العربي (القديمة) يكون متبوعاً بقائمة طويلة من الأسئلة. ولكل سؤال "باريم" تنقيطيّ تتفاوت مُؤشِّراته حسب أهمية وصعوبة السؤال. كانت لديّ نقط ضعف في مشواري الدراسي. من بينها أنني لم أستطع، يوماً، "حفظ" تفعيلات الشعر العربي العمودي ولا بحورَه، مديدَها وقصيرَها ورملها وهلُمّ محيطاتٍ وتفعيلات!..
كان اتفاقُنا على أن نمارس -ماوكلي وأنا- نوعاً من "المقايَضة" في امتحان تحليل النصوص: "يُعطيني" هو البحرَ والتفعيلة وأكون أنا "في الخدمة" في البقية، بما في ذلك "تحليل" القصيدة، الذي يتطلب صفحتين على الأقل وما فوقهما!..
بعد أن تأكد من شكوكه، انحنى الأستاذ على "ماوكلي" وسأله، وهو يشير إلى ورقة الوسخ: "هل هذه الورقة لك؟".. وبصفاقة غريبة، لكنْ منتظَرة، أجابه بالإيجاب، متسلّحا بكل قدرته على "التسنْطيحْ".. لم تُقلقتْني قدرتُه على الكذب بذلك الشكل المفضوح بقدْر ما شغلني ما ينتظرني من مفاجآت محتمَلة جرّاءَ ذلك الموقف السّخيف..
47- عِـنـْـدمـا تـنـاقََـَـلـْـنـا 2/2
رغم كل المَقالِب والحِيّل التي تشرّبْناها خلال مراحل دراستنا السابقة، كنّا في طور الجامعة قد وصلنا إلى نوع من "النضج" يُؤهّلنا إلى أن نحاول، ما أمكننا، الابتعادَ عن وضع أنفُسِنا في مواقفَ مثيرة للشفقة أو التّشفّي، من قبيل ما وجدتُ نفسي فيه، مساءَ ذلك اليوم، الذي بقيّ، بلحظاته الثقيلة، موشوماً في الذاكرة..
كان من غير الأنسب، من "ماوكلي"، الإصرارُ على كذبته، المفضوحة بالقرائن العينية الصارخة، أمام الأستاذ المُراقِب. فوق هذا، كان الأخير واحداً من الأساتذة الذين يحظَوْن بتقدير واحترام خاصّيْن بين صفوف طلبة الآداب. عندما بادرني الأستاذ بنفس السؤال الذي واجه به صديقي قبلي، لم أستطعْ الالتفافَ على الحقيقة. صارحتُه بسخافة الموقف وتأسفتُ على ما وقع، بكلمات غامضة ومتلعثمة، ليتوجه، رأسا، إلى كرسيه و"المحجوزات" بين يديه..
للحظاتٍ، تاهتْ كلُّ الكلمات والتعابير التي هيّأتُها، على امتداد أيام وأيام، لأُواجه بها الامتحان. تسيّدَ البياضُ والفراغُ على مساحات الذاكرة. استحالت تلك القدرةُ على الكتابة عجزاً وشللاً ذهنياً تامّاً. انفصل بي مجلسي عن صخَب القاعة وأجوائها. توقّف الزمنُ عن الدوران وانعدم المكان..
انصبَّ تفكيري على المصير الذي ينتظرني وصديقي "ماوكلي"، غيرِ المهتمّ، إطلاقاً، بما يجري. حاولتُ أن أقرأ الملاحظات التي سيُدوّنها الأستاذُ في تقريره الذي قد يكون آخرَ عهدي بمقاعد الجامعة! رميتُ قلم الحبر الجافَّ فوق الأوراق الفارغة أمامي واستسلمتُ لجميع أنواع الهواجس. ماذا دهاني حتى أُشارك في عملية "النّْقيلْ" السخيفة هذه، والتي أوصلتني إلى ما أنا عليه؟.. لماذا لم أرفض الاقتراحَ "الماوكليَّ" من أساسه وأكْتَفِ بما في جعبتي من أفكار؟.. كيف سأواجه فضيحةَ الطرد و"شوهةَ" التقرير الذي سيُرفَع إلى العمادة؟.. ثم.. ما الذي جعلهم لا يختارون إلا "ماوكلي"، بالذات، ليُجلسوه أمامي؟..
انتبهتُ من "دوختي" على صوت طالبةٍ تبكي وتتوسّل إلى الأستاذ المراقِب.. كانت تجلس في الصف المحاذي. لم أنتبه إلى تفاصيل ما جرى، لكنني فهمتُ، من توسُّلات الطالبة وإشاراتها، أن "ماوكلي" هو المسؤول.. "ماوكلي" لم يكن يرتعد، مثلي، أو يفكر في العواقب.. عندما أيقنَ أنني لم أعد أقوى حتى على الكتابة في أوراقي الخاصة، بحث عن "مُنقذ" غيري.. كثُر اللَّغَطُ واشتدّت التوسّلات الباكيةُ للطالبة المسكينة، بينما بقيّ "ماوكلي" -كعادته- "رابطَ الجأش"، وكأنّ كلَّ تلك المسرحيات التي شارك فيها لا تعنيه في شيء.. حيّيتُ، في دواخلي، قدرتَه العجيبةَ على تحمُّل ضغط المواقف، مهما تكُنْ، وأنا أضحك على خيبتي، التي انتهتْ بي إلى حال كحالي تلك..
استغللْتُ مرورَ الأستاذ المُراقِب إلى جانبي وطلبتُ إليه، وأنا أذوب خجلاً، أن يتجاوز عن خطئي ذاك. نظر إليّ وطمْأنني قائلا إنه لن يَعْتدَّ بـ"الحالة الأولى".. عدتُ إلى الأوراق أمامي، وقد استرجعتُ بعضاً من قدرتي على التفكير والتّذكُّر. سارعتُ إلى تحرير الموضوع التحليليّ للقصيدة، وأنا أُسارع الزمن الذي أضعتُ منه الكثير..
ماوكلي"؟ ظلّ، طيلةَ ما تبقّى من الوقت، على حاله من البحث عن منقذ أو منقذة.. عن "حالة" ثالثة..
48- "الرّاشْـتاجْ".. النـّجـاحُ بالمـدْيـُونيّـة
انتهت الساعات الثلاثُ لذلك الامتحان، أخيراً. قام الأستاذان بجمع الأوراق وتَفرّقَ الطلبةُ، بين مُستاء وراضٍ مسرور. استطعتُ، بالكاد، الانتهاءَ من تحرير إجاباتي. لم أكن راضيا عن تلك الجولة من الامتحانات ولا على ما جرى خلالها..
وإذا كنتُ في السنتين الجامعيتين الأوليَيْن قد ضمنتُ النجاحَ في "الكتابي"، منذ الدورة الأولى، وبفارق مريح من النقط عن المعدَّل المطلوب، فقد عرفتُ -للمرة الأولى والأخيرة أيضاً- ما معنى أن تنجح وفق مصطلح الـ"راشْتاجْ" (Rachetage).. ومعناه أن تنجح، لكنْ بمجموع نقط دون المعدّل..
"الرّاشتاجْ" يعني نقطةً، نقطتين أو ثلاثاً دون المعدّل المحدَّد، في العادة، في 30 نقطة. في تلك الدورة، حصلتُ على مجموع 27 نقطة.. بقيتْ في ذمّتي، إذن، ثلاث نقط كاملة عليّ أن "أُسدّد دَينَها" من النقط التي سأحصل عليها في "الشفوي"..
في السنة الثالثة، لم تعُد لنقطته أهمية كبرى. صارت مادته "ثانوية" ونقطتُها غير مُوجِبة، بالضرورة، للرسوب. مع ذلك، حدث لي موقفٌ طريف معه.. ظللتُ "ألوك" محاضراته على امتداد أيامٍ وليالٍ. لكنْ، وقبل ساعات قليلة من الامتحان الشفوي، انتشر بين الطلبة نوع من المطبوعات يُعرَف بـ"سؤال -جواب" فيه نوعية مختارة من الأسئلة التي اعتاد الأستاذُ طرحَها على طلبته، مع أجوبة موجَزة..
عندما حان دوري، تطلّع إليّ ذو الجُثة الضخمة وبادرني بالسؤال من تحت شاربه الأسود الكث:
-قل لي أنتَ، ما هي "البُورزوازيّة"؟!..
-البورزوازية.. هيّ.. العِـلـْم، التـّـقـْـنيّة ورأس المـالْ!..
49- بُحُـوث التـّخـَـرّج..
بانتقالي إلى السنة الرابعة والأخيرة في مشوار الحصول على "الإجازة"، المبتغاة، لم يعد يفصلني الكثير عمّا بَعد الجامعة. صار شبح المصير المجهول يلوح في الأفق، غامضاً كتفاصيل الأحلام، حيناً، واضحاً كلحظات الكوابيس الثقيلة، حيناً آخر..
لا يكاد الأمل يرسُم في المخيِّلة حدودَ مستقبل واعد، حتى يستبدّ اليأسُ بالأفق ويطاردَ "بقايا الصور"، المخمّلية، التي كنا نرسمها في مخيلاتنا لِما يُستقبَل من الأيام، بعد تحوّز الشهادة الجامعية.. الأفواج السابقة والمتلاحقة التي سبقتنا إلى ذلك "المَكسَب"، دون أن تتخلص من قيود العطالة، تدفع أكثرَنا تفاؤلاً إلى الاستكانة، في الأخير، إلى كوابيس اليقظة، قبل مثيلاتها التي تتدثّر بسواد الليل لتهجم على "تطلّعاتنا"، ولو في أحلامنا المتباعدة..
على امتداد السنوات الأربع، عشنا لحظاتٍ متناقضةً وعرفنا مواقفَ صعبةً وواجهْنا ضغوطاً نفسيةً رهيبةً. صِرْنا كالأعداء، أحياناً، إزاء أجسادنا، وعقولنا كذلك، خصوصاً إبّان فترة الاستعداد للامتحانات..
كما عشنا مغامرات على جميع الأصعدة وواجهنا أحداثاً ووقائعَ في الحياة الشخصية والجماعية. انقطع البعض ممّن وجدوا بدائلَ أخرى، كالالتحاق بوظيفة أو سفرٍ خارج الحدود، بعد فُرص لاحت لبعض "المحظوظين".. آخرون انقطعوا عن الدراسة، ببساطة، لأنهم لم يُوفَّقوا في قطع المشوار الجامعيّ بنجاح..
ما ميّز السنة الأخيرةَ، أيضاً، تجربة إنجاز البحث الجامعيّ، التي يتعيّن، بموجبها، على كل طالب أن يُهيئ بحثاً للتّخرّج، يتناول من خلاله ظاهرة أدبية معيّنة أو يتصدى لمفكر أو أديب أو تيار أدبي، فكري أو فلسفي، بالدراسة والتحليل، وفق منهجيةٍ وضوابطَ أكاديمية متعارَف عليها، يؤطّره في ذلك الأستاذ المشرف على بحثه..
ولأنني كنت من المصابين بـ"لعنة" المحكيّ، فقد قررتُ، منذ زمن بعيد، أن أُنجزَ بحثي حول أحد الروائيّين الكبار وأعماله الرائعة التي خلّفها. انتهى بي التفكير إلى الروائيّ السّعوديّ عبد الرحمان منيف. كان الإنتاج العبقريُّ لهذا الأديب الكبير قد أسَرني، بعد اطّلاعي على معظم إبداعاته المنشورة، من "الأشجار واغتيال مرزوق" إلى "قصة حب مجوسيّ" إلى "سباق المسافات الطويلة"، إلى "النهايات" وغيرها، انتهاء بخماسية "مدن الملح"..
بدا لي تعليلهُ منطقياً، إلى حدّ ما. في النهاية، اتّفقتُ وإياه، باقتراحٍ منه، على أن أتناول في بحثي الجامعيّ رواية "البرزخ"، ذاتَها، لعمر والقاضي، رجلِ التعليم في إحدى ثانويات الدار البيضاء..
50- مِن المسْـرُود له إلى السـّـارد..
حدّد لي الأستاذ المُشرف تيمة "صوت السارد" في الرواية ذاتها، التي سبق لي، سنةً من قبلُ، أن أعددتُ حولها ورقةً ضمن الأيام الدراسية، التي نظمتها الجامعةُ على شرف عمر والقاضي، مؤلف رواية "البرزخ"..
السارد في الرواية لم يكن سارداً واحدا، كان مجموعةً.. تعدّدت "أصوات" السارد على امتداد أسطر الحكي في الرواية حديثة العهد بالصدور، حينها.. بحكم أنني أعددتُ بحثي الجامعي في العام 1997 من القرن الماضي وأن الرواية لم تصدر إلا سنة واحدة قبل ذلك التاريخ، فلم أكن لأطمع في مراجعَ أو مصادرَ "أقرأ" بمساعدتها "برزخ" عمر والقاضي. فوق ذلك، اقترح عليّ الأستاذ المشرف مرجعاً قام بترجمته، رفقة أستاذين آخرين، من "وجوه" جيرار جنيت..
خطاب الحكاية كان، إذن، مرجعي ومصدري الوحيدَ. كان اعتماد أحد أعمال الفرنسي جنيت كمرجع لإعداد دراسة عن رواية مغربية حديثة ينطوي على "مغامرة" أدبية محفوفة بمخاطر "الإخفاق" في الإحاطة بالعمل موضوع الدراسة. كان صعباً "إسقاطُ" نظريات ومنهج كتاب نقدي خُصص لقراءة أعمال أدباء فرنسيين وغربيين على عمل روائي مغربي كُتب في مجتمع غير المجتمع الفرنسي ولقراءٍ في غير بيئة فرنسا..
عدا المرجع المترجَم وعدا إحدى الدراسات التي كانت قد تناولت "البرزخ" في إحدى الجرائد الوطنية، لم يكن ثمة مساعدة أخرى أستطيع التعويل عليها لإنجاز بحثي الجامعيّ، بحثِ التّخرُّج!..
المرحلة الموالية كانت عمليةَ "رقن" البحث الجامعيّ على جهاز "الحاسوب" وما أدراك ما رقن بحث جامعيّ!.. كانت "الراقنة" التي تكلفت بذلك "تُلحق" أضراراً جسيمة بالمادة التي وضعتُها في عهدتها كي تقوم بتصفيف كلماتها على جهازه الآليّ..
أرهقتني كثرةُ المرات التي كان عليّ فيها أن "أُدخل تصحيحاتي" على ما كتبته الراقنة أكثرَ مما أرّقني مجهود إعداد البحث وتحريره.. وانتهى بي الأمر، لحسن الحظ، إلى تسليم نُسخ بحثي المرقونة في الموعد المحدَّد لذلك. ومن الأمور التي اعتدنا عليها حينها، كطلبة جامعيين في مرحلة التّخرُّج، أن نعمل على طبع نُسخ إضافية من بحوثنا، نخصُّها بإهداءات إلى بعض الأعزّاء من الأهل والأصدقاء، إضافة، طبعاً، إلى نسخة خاصة، وبإهداء مميّز، للأستاذ المشرف..
اقتصرت "مناقشةُ" البحث على بعض الأسئلة التي طرحها عليّ الأستاذ المناقِش، بحضور الأستاذ المشرف. لا أذكر أن الأسئلة كانت صعبة. كانت، في مُجملها، في المتناوَل.. وحصلتُ على نقطة مُستحسَنة..
لستُ أدري لماذا ما زلتُ أتذكّر ذلك اليوم بتفاصيله؟! كان يوماً قائظاً من صيف مراكشَ الذي لا داعيَّ لوصف حرارته!.. كان أحدُ المتعاونين من "يُشرف" على عملية توزيع الدبلومات. كان وحيداً داخل إحدى حجرات "الحرم" الجامعيّ. عندما تقدّمتُ لتسلُّم شهادتي، طالبني "موزّع الإجازات" بدرهم، مقابل تسلُّم الـ"إجازة"!..
عندما كنتُ أخلو إلى نفسي، كثيراً ما ساءلتُ نفسي أين هي سائرة ذاتي؟ أيَّ مركب قد استقلّتْ؟ خطواتي، أين تقودني؟..
لكنْ.. هل "تفعل" الكتابةُ كلَّ شيء؟ هل "يقول" الكاتبُ كلَّ ما يريد؟ حتماً، لا! فكلما أنهى الواحدُ منّا ما كتبه وأعاد قراءتَه، يكتشف أنه لم "يقلْ" كلَّ ما كان "يحلم" أن يقول.. أنْ لم يُشفِ غليلَه كما ينبغي.. أنْ ما زال هناك ركنٌ قصيٌّ على مساحته يقبع "جرحُ" من أيام غابرة، غادرةٍ تحوطه "جيوشٌ" من فخاخ الذاكرة يستعصي اختراقُها.. أحياناً أخرى، قد يتدخل "العقل" ليحول دون "اقتراب" القلم من دائرة تلك "الجراح"..
أضاعوك وأيَّ فتى أضاعوا"، عبارةٌ قالها لي، ذاتَ صباح، صديقٌ جاورني في مشوار الدراسة، ضاحكاً، أثناء تبادلٍ للحوار حول هواية/ "غواية" الكتابة.. تحولت العبارةُ، بعد ذلك، إلى لازمة تُعنْون لكل لقاءاتي بـ"كمال"، الذي كان من "المُصابين" بلوثة الكتابة، قبل أن تأخذه تياراتُ الحياة إلى "مهنة" أخرى أبعدتْه عن ممارسة الغواية/ الكتـابة..
في مرحلة من حياتي، مارستُ الكتابةَ العمومية.. قمتُ أيضاً بتصفيف بحوث ودراسات جامعية وغيرها.. اشتغلتُ مراسلا لأسبوعيات ويوميات.. أبعدني ذلك، أحيانا كثيرة، عن عشقي الأول: القصة..
كتمتُ عن الكون أسار عزلتي وانقطاعي وبُحتُ لدمعْ الشمعة بتفاصيل نكبتي والحيرة.. أعلنتُ حرب الصمت ضد نقيق التافهين وشرعتُ في تعلُّم أولى حِكَم الوجود.. كان الدهر يمّاً والأفكارُ مركبا للإبحار نحو جزيرة الكمالْ.. وهذا الليلْ، عشق العظماء والحيارى، كان مُنقذِي من جنون البشر في الأضواءْ.. أفرد أوراقي وأؤطِّر وحدتي برباعيِّ البؤس والألمْ، التفاهةِ والنّدمْ، لأرسمها لوحة بلا أصباغْ، تُجسّد تيهَ الإنسان وعبثية الوجودْ.. فيا أيها الليلُ الساكن فينا أضئْ شعاب الأفئدة واسدل ستائرَك على شوارع مدينة لا يروقني عرْيُها النهاريُّ فأسرق، تحت جُنْحك، لحظات أهيمُ فيها على وجهي، باحثاً عن معنى بديلٍ للحياة!..
وتستقبلُني عيناك، تُطوّقانني، تأْسَرانني، تقودان خطواتي فوق الحشائش الخضراء النديّة، وتُحلّقان بي فوق الأشجار السامقة الصموتة، وتسيران بي فوق أسوار المدينة العتيقة.. ثم ترتفعان بي نحو نجوم السماء المتلألئة في أطراف الكون المتراميّة، حيث تُشيّدان لي عشا للحب، دافئا.. ووكرا للحلم، ورديّاً.. ووطنا للأمل، سرابيّاً..
إسماعيل وعبد الله.. لوحدهما كانا يُشكّلان "عصابة" قائمةَ الذات، ينتقلان من "ضحية" إلى أخرى، من مقلب إلى آخر.. ينشران نوعا من "سعادة" أيامنا تلك. يرسمان الابتسامة في زمن ينصرم على إيقاعات الفراغ والانتظار وضبابٍ يلوح في الأفق، كثيفاً كيأْسنا، لذيذاً كرذاذ الصباحات الغائمة على شواطئ الأمل، المفتوح على جميل الاحتمالات..
في مغربٍ نعرف جيداً كيف تسير فيه الأمور، كان شيء واحد ينقصنا ونحن نتقدم لاجتياز مباريات التوظيف أو التشغيل: الإيمان بشفافية ومصداقية تلك المباريات! كنا نستوفي جميعَ الشروط في أي مباراة نتقدم إليها. ننجز كل الوثائق اللازمة ونُرفقها بطلب أنيق. نقدم الكلَّ في ملف جميل داخل الآجال المحدَّدة. نهيئ ليوم الامتحان و"نراجع أوراقنا" ونستشير هنا وهناك. نوقّع على أوراق خطَطْنا عليها مواضيعَ نموذجية. نجيب على معظم الأسئلة المطروحة ونغادر قاعات الامتحان ونحن نتغامز على أرقام نعاين في كل القاعات التي احتضنت "الكونكورات" الكثيرة التي اجتزناها. أصحاب هذه الأرقام "الغائبون" عن يوم الامتحان كانوا -للمفارقة الغريبة- هم من ينجح في آخر المطاف! بينما يتأجل -في كل مرة- موعدنا، نحن، مع الحظ إلى مناسبة، إلى مناسبات أخرى..
تأمُّلُ الأسماء العائلية لأولئك الناجحين في المباريات كان يقتل في أعماقنا ما بقي من إيمانٍ بمبدأ تكافؤ الفرص الذي من المفروض أن يتمَّ وِفْقَه أيُّ إعلان عن مباراةٍ للتوظيف.. أسماء "صقيلة"، "ملساء"، سلِسة النطق لا تشبه في شيء أسماءَنا وألقابَنا "الخشنةَ" والغريبة التي كنا نريد أن "نزاحم" بها أسماءَ أخرى، معروفةً، يبدو أنها لم تكن تحبُّ أن تجمعها اللائحةُ ذاتُها بأسمائنا "النّكِرة"، الغريبة في تركيباتها الأبجدية، خصوصاً إذا وردت ضمن قائمة "الناجحين"..
في نهاية المطاف، تمَّ قبولي للالتحاق بالدراسة في "علوم وتقنيات الكتاب، تخصُّص "مساعد نشر".. وفي الوقت الذي كنت أحزم حقيبتي للالتحاق بالرباط لبدء فصل جديد في مشواري الدراسي الطويل، كان عبد الله وماوكلي قد حزما حقائبهما لمغادرة البلاد في اتجاه فرنسا، بعد أن نجح كل واحد منهما، كل بطريقته الخاصة، في "استيفاء الشروط" التي تُؤهّلهما إلى ركوب موج الرحيل نحو مدن الشّمال..
51- اعْطِـني درهمـاً وخـُذ "عـِجـَـازة"..
حصول طالب على نقطة جيدة في البحث الجامعي كان يعني، بدرجة كبيرة، أن لديه حظوظاً كبرى في أن ينجح و"يتخرّج" من الجامعة، لذلك عندما علمتُ أن الأستاذ المشرف قد منحني 20/14، أيقنتُ أنّي، لا محالة، "حاصل"، خلال تلك السنة، على شهادة الـ"عِجازة"، شهادة التّخرُّج..
تخرَّجْنا، بالمئات، من شعبة اللغة العربية وآدابها. تخرَّجَ المئات من "الشُّعَب" الأخرى داخل الكلية، وتخرّجت الآلافُ في مختلف تخصُّصات الجامعة، التقنية والعلمية وهلمّ "تخصُّصات".. آلافٌ أخرى "لفظتْها" جامعاتُ الوطن وألقتْ بهم إلى الشارع..
وأذكر أنه، أياماً بعد ظهور النتائج النهائية، أُعلِن في الجامعة عن بدء مرحلة "سحب" الشهادة الجامعية "La Licence "!..
ذهِلتُ للأمر. لم أكن أعرف أن كل طالب مُطالَب بدفع الدرهم قبل تحوّز إجازته.. ضحكنا كثيراً، بعد ذلك، وتبادلنا التلميحات بخصوص ذلك الدرهم الذي دفعناه. وجدنا أن الدرهم كان يلخّص، ربما، القيمةَ الحقيقية "في السوق" للوثيقة التي يتسلّمها كل "الناجحين" في مشوارهم الدراسيّ..
أذكر من ذلك اليوم، أيضا، أنني ذهبتُ متأبطاً محفظةَ بنّيّة رافقتني خلال مشواري الجامعيّ. دسَسْتُ الإجازة بين أوراقي وأحكمتُ عليها إغلاقَ المحفظة.. لم أكنْ أريد للوثيقة أن تتعرّض لأدنى خدش أو تمزّق طارئ.. قصدتُ، رفقةَ بعض "المتوَّجين، أقربَ كشك وقمنا بنسخ دبلوماتنا نسخاً كثيرة، قبل أن نعيدها إلى مكانها بين أوراقنا، بكل الحرص اللازم، حتى تظلّ الإجازة على حالها الأصليّ، دون أن يطالها إهمال من أي نوع..
على أن كل ذلك الحرص الذي أوليْناه لإجازاتنا لم يشفعْ لها، بعد ذلك، ويمنع عنها التّعرُّضَ لـ"إهمال" من نوع آخر.. إهمال تَجسَّد في "الإهانة" المذلّة التي تعرّضتْ لها إجازاتنا وإجازاتُ آخرين كثرٍ، وهي تقبع، منسيةً، منبوذةً، في دولاب كل واحد منا، دون أن تكون -كما هو مُفترَض- جوازَ مرور إلى سوق الشغل، المآل الطبيعي المفترَض أن ينتقل إليه كل مجازي البلاد، لولا أننا في بلد لا تلقى فيه الشهادات الجامعية -للأسف- ما تستحقه من عناية وتشريف ولا تعطى فيها الفرص -إلا لِماماً- لحاملي هذه الشهادات، حتى يُنهُوا مشاويرَهم الدراسية في عمل يليق بهم وبمستواهم المعرفيّ..
52- حـفـْـلة ٌعلى شرَف "لاليصّـانـْصْ.."
انقضت الأيام الأولى على حصولنا على "لاليصانْصْ" عادية وهادئة. كنا بعدُ في مرحلة الانتشاء بـ"إنجازنا" الدراسيّ. ينطبق هذا، طبعاً، على من أفلحوا في اجتياز مرحلة الدراسة الجامعية بنجاح. أما الذين فشلوا في ذلك، لسبب أو لآخر، فتلك حكاية أخرى..
تخلّصْنا من كل الثقل الذي كنّا نرزح تحته، طيلةَ سنوات "التحصيل" الأربع. تفرّغْنا لمزاولة بعض ممارساتنا وعاداتنا اليومية، "الجميل" منها و"القبيح"، دون أن نكون كما كان عليه حالُنا في السابق، مُكرَهين على أن نُفكّر، دوماً، في "الدروس" وفي أجنداتنا المزدحمة والمتلاحقة.. واظبنا على الاجتماع في أحد الفضاءات الخضراء صار، بحكم اجتماعاتنا الكثيرة التي أمضيناها فيه، في مكانة "بيت" ثانٍ بعد بيوتنا الحقيقية... تحت ظلال الأشجار التي تنتشر على امتداد المكان، واصلنا مُزاولةَ شغبنا، الجامح، في المعاكَسات، في لعِب الورق وفي التخطيط لبرنامج المساء..
مساءاتُ مراكشَ ولياليها هي الفترة الزمنية التي تستحق أن يعيشها المرء، بكل تفاصيلها، البسيطة والرائعة، في آن، كي يدرك ما معنى أن تعيش في "أجمل مدينة.. في أجمل بلد في العالم"!..
كما حدث ونحن نُنْهي المرحلة الثانوية باحتفالنا بالتتويج بـ"الباكْ"، اقترح عليّ سعيد أن أتكفّل، رفقةَ إسماعيل، بتنظيم حفلة "التّخرُّج من الجامعة". سعيد كان أحدَ طلبة البيولوجيا، كلية العلوم. أراد أن "يؤرّخ" لحدث حصوله على الشهادة الجامعية. تدارسنا كل التفاصيل المتعلقة بـ"تموين"الحفلة، البحثِ عن "DJ" يُنشّط اللحظةَ ويضبط الإيقاعات الموسيقيةَ، تدبُّرِ كلِّ ما يلزم من أكسسوارات تليق بالحدث وإعدادِ وتوزيعِ الدعوات..
عندما انتهينا من ضبط كل هذه الأمور، انتبهْنا إلى "خلل" أجمعْنا على أنه سيقوّض كلَّ مجهوداتنا وينسف كل ترتيباتنا.. "حفلةٌ بدون فتيات، محكومٌ عليها، مسبَقاً، بالفشل"... هكذا علّق أحدهم، ونحن نناقش آخرَ الإجراءات. لم يعد يفصلنا عن موعد الحفلة سوى يوم واحد وبضعِ ساعات، عندما لاحظنا قلةَ "الجنس اللطيف" على قائمة المدعوين.. فجأةً، وكعادته في مثل هذه المواقف، تكلّم المنقذ، "ماوكلي"! تعهَّد أمامنا جميعاً بأن يُحضر لوحده 8 "شابات".. خالَها البعضُ إحدى نُكته السخيفة، أما من يعرفونه جيدا منا، فقد أولَوْه كلَّ اهتمامهم، لتتركّز عليه الأنظار، تستحثّه على شرح اقتراحه..
حُلّت الإشكالية الأخيرة لحفلتنا المرتقَبة. وفي أحد أيام الصيف القائظة، اجتمعنا، زوالاً، على سطح منزل أهل سعيد، الفسيح، نضع اللمساتِ الأخيرةَ في عين المكان المخصَّص للاحتفال على شرف "الآنسة لاليصانْصْ"..
Rendez-vous.. Marocain -53
عندما قاربت عقاربُ الساعة الخامسة ولم تظهر بعدُ طلائع المدعوين، داخلَنا الشكُّ، شيئاً فشيئاً، وصرْنا نتبادل، من حين إلى آخر، نظراتٍ قلِقةً ومتسائلة. لم يكنْ هناك سوى "السّي التحفاوي"، ورفيقيه الدائمين: منير وعلي. ولأنهم لم يكونوا ضمن "المدعوين"، بحكم كونِ الأول ابنَ عم سعيد والآخَرَيْن من جيرانه وأصدقاءِ طفولته، فقد بدأتْ "تباشيرُ" فشلِ حفلتنا تلك تلوح في الأفق. على أن الموقفَ سرعان ما انْجلتْ عنه أماراتُ التّوتُّر والتّرقُّب، عندما بدأتْ، أخيراً، تتقاطر أفواجُ المدعوين..
كان الجميع يبرِّرون التّأخُّرَ بحرارة الجو، المشتعلة. وكانوا مُحِقّين في ذلك.. صدحت الموسيقى في الأرجاء وبدأت الأجسادُ "تتراقص" هنا وهناك. انشغلتُ بالإشراف، رفقةَ آخرين، على توزيع الحلويات والمشروبات على "جمهور" الحاضرين، وبأشياء أخرى. لكنّ ذلك لم يمنعْني من تبادل الاستفسارات مع إسماعيل، عبد الله وسعيد عن سر غياب "ماوْكلي"، غير المفهوم. كان البعضُ من "الشابات" الثمانية اللواتي وعد بجعلهنّ يأتين إلى الحفل قد وصلْن بالفعل واتّخذهن مجالسهنّ، دون أن يبدو لداعيهنّ أثر..
عرفتُ، في قرارة نفسي، أنه يؤخّر حضوره فقط ليرتّبَ تبريراتِه وإعداد خُططه، الجهنمية لمواجهة تساؤلات واستنكارات كل ذلك العدد من "الصّاحْبات" اللواتي أقنَعَ كلَّ واحدة منهنّ بالمجيء للاحتفالظ، "رفقتَه"، بحفلة التّخرّج.. بحكم معرفتي المسبَقة ببعض هؤلاء، كنتُ مضطرّاً لاختلاق بعض الأجوبة وإعطاء تطمينات لهنّ وإيجاد تبريرات لتأخّره. "وأنا مالي؟" كنتُ أقول بيني وبين نفسي، وأنا أضحك للموقف الجديد الذي وضع فيه صديقي ماوكلي نفسَه..
كان هناك، أيضاً، الحَسَنان ("القـُوقْ" و"الحُـوتْ")، زميلا منير في كلية العلوم. حسن "القوق" كان، بظلّه الخفيف و"قفَشاته" المضحكة، يُضفي، دوماً، طابعاً من المرَح والسعادة على الأجواء... وأخيراً، أطلّ صديقُنا متأبّطاً ذراعَ إحداهنّ.. في كامل أناقته كان، محاطاً بإحدى "الدّْرّياتْ" الجميلات. راقبتُه، من بعيد، وهو يلِج المكان. تخلّص، برفق، من يد مرافِقته، وهو يجول بنظره في أطراف السطح الواسع. التقطتْ عيناه بعضاً "صديقاته"، العديدات. أضحكَني الموقفُ، وأنا أرى إلى هؤلاء المسكينات والألوانُ الشّاحبةُ تتعاقَب على تقاسيمِ وجهِ كلِّ واحدةٍ منهنّ، وهي تنظر إلى "صاحبها" يصل، متأخّراً، وفوق هذا، مرفوقاً بـ"صاحبة" غيرِها..
ووحدَهم "التحفاوي"، منير، علي، أنا والمقرَّبون، أدركْنا كم كان الموقفُ الغريبُ مثيراً للضحك والشّفقة على بعض "ضحايا" "ماوكلي"، المسكينات..
54- الكِتـابة وسُـؤالُ "الفِـعْـل"..
تتوالى الأيام وتتسارع الأعمار.. تزدحم جثث الموتى في المقابر، والتاريخ عَجلةٌ يدفعها "غُول" الزمن إلى هوة لا قرارَ لها. والإنسان يعاند الريح ويصارع التيارَ، علّه "يربح" صراعَه الأزليَّ مع هذا الزمن الذي.. لا يرحم!؟..
الكتابةُ "فصلٌ" من فصول "ملحمة" مقاومة الإنسان للزمن. وكلٌّ يكتب لغرض. أنا!؟ أكتب لأطيل عمري!.. لا أقصد، طبعاً، أن أزيد في سنوات كُتبتْ لي. إنما أقصد أنني كلما كتبتُ أكثرَ، كلما "أجّلتُ" موعد الموت مع هذا الجسد، المشاغب.. هل أنا أخشى الموتَ إذن؟ نعم، وأَجزَع منه! وممارستي الكتابةَ نوع من السخرية من شيء لا بد سيَهزِمُني، في النهاية، فلأهْزِمْه قبل أن يهزمني!..
مع هذا، حين يقتنع كاتب (دون تمييز بين أنواع و"أصناف" الكتّاب أو الكِتابات) أنه قال أكثرَ مما قال في المرة الأولى، في المحاولة السابقة، تعود بارقةٌ من الأمل لتجعله يًفكّر في "مغامرة" أخرى.. ومن هنا تتأتّى الاستمراريةُ والتّحدّي.. وهذا هو المُهمّ في طقس الكتابة!..
مارستُ الكتابةَ في معظم "أشكالها" وتصنيفاتها. كتبتُ الخاطرةَ، القصةَ والمقالةَ وخربشْتُ محاولات في الرواية ضاعت مني، بشكل أو بآخرَ، منذ ابتلائي برفقة القلم والورقة.. صفحاتُ أخرى من هذه الكتابات الروائية ما زالت تنتظر، في مكان ما "هناك"، بعد أن التحقت، مؤخرا، بالعمل "هنا"..
مارستُ الكتابةَ في معظم "أشكالها" وتصنيفاتها. كتبتُ الخاطرةَ، القصةَ والمقالةَ وخربشْتُ محاولات في الرواية ضاعت مني، بشكل أو بآخرَ، منذ ابتلائي برفقة القلم والورقة.. صفحاتُ أخرى من هذه الكتابات الروائية ما زالت تنتظر، في مكان ما "هناك"، بعد أن التحقت، مؤخرا، بالعمل "هنا"..
هل يستطيع الإنسانُ أن "يُفاضِلَ" بين نصوصه؟ ربما.. إليكم "نص" لديه مكانة خاصة بين كل ما خطّتْ يمنايَ على بياض الورق..
55- أبـجَـديـّاتُ الـتـّـيـْـه..
"لعيون ذكّرتْني بغاربِ الأيام"... نسجتُ عنوانا لجميل الأحلام وتأبَّطتُ حزني والأسى وبدأتُ رحلة التّيه في عالم أثخنني بالجراح واستكثرَ عليَّ أن أكون شاعرا... سرتُ متعثرا في ظلمة السراديبْ، فعسكرتْ في دواخلي مخاوفُ الأزمنة وعشَّشت على جدران روحي غربان بوجود الخطايا..كتمتُ عن الكون أسار عزلتي وانقطاعي وبُحتُ لدمعْ الشمعة بتفاصيل نكبتي والحيرة.. أعلنتُ حرب الصمت ضد نقيق التافهين وشرعتُ في تعلُّم أولى حِكَم الوجود.. كان الدهر يمّاً والأفكارُ مركبا للإبحار نحو جزيرة الكمالْ.. وهذا الليلْ، عشق العظماء والحيارى، كان مُنقذِي من جنون البشر في الأضواءْ.. أفرد أوراقي وأؤطِّر وحدتي برباعيِّ البؤس والألمْ، التفاهةِ والنّدمْ، لأرسمها لوحة بلا أصباغْ، تُجسّد تيهَ الإنسان وعبثية الوجودْ.. فيا أيها الليلُ الساكن فينا أضئْ شعاب الأفئدة واسدل ستائرَك على شوارع مدينة لا يروقني عرْيُها النهاريُّ فأسرق، تحت جُنْحك، لحظات أهيمُ فيها على وجهي، باحثاً عن معنى بديلٍ للحياة!..
وتتوحد ذرات الكيان المُتشظّي بصمت الكون الناعسْ، وتُؤلّف نواميسُ الطبيعة السرمدية، سمفونيةَ عشقٍ أبديّ...
فيا أيّها الليلُ الطويل لا تنجلِ..
فداك نهاراتي والعمرُ..
واترك أسير العشق يرنو
ويشكو الكأسَ تجريحَ المُقَلِ..
لكنّ الصبح لاح في الأفق "نذيرُه"، وعند مدخل المدينة، بدا شبح إنسان مهزومْ..
56- بِـدايـة ُاْلمَـتــاهـَة..
يوم طويل قائظ، وفراغ.. ساعاتٌ طوال يضبط وتيرةَ انصرامها غولُ الخواء، المتربّصُ. حتى المكان الذي كنا نقضي فيه صباحاتنا ومساءاتنا يُوحي بتسيُّد اللا معنى على لحظاتنا، الثقيلة! يعقب هذا اليومَ الطويل والقائظ يومٌ آخرُ يشبهه في كل تفاصيل الروتين، القائلة..
يلي اليومين ثالثٌ، فيوم رابعٌ. تنقضي الأسابيع والشهور بطيئة، ودوما.. فارغة.. لا شيء كان يلوح في الأفق. لولا بعضٍ من هوايات نشغل بها أنفسنا ولولا مغامرات نركب مراكبها ـدون أن نكون بالضرورة مُزوَّدين بكل وسائل الإفلات من عواقبهاـ لكانت نهاياتنا، ربما، غير "سعيدة" ولَمَا استطعنا أن نقطع المشوار الطويلَ بين لهيب العطالة ونحن في كامل قوانا، العقلية على الخصوص..
لم يكن يكسر إيقاعاتِ الرتابة عن أيامنا سوى إعلان، هنا أو هناك، عن بعض مباريات التوظيف، على قِلَّتها وتباعُد فترات تنظيمها، دون أن نُخرج من بالنا، طبعا، أن أمر نتائج معظم مباريات التوظيف أو التشغيل تلك محسوم، مسبقا، بنسبة مئوية هامة، لصالح "صنفٍ" آخرَ من المجازين أو غيرهم، "محظوظٍ" في بلادٍ لا يُحالف فيها "الحظ" الكثيرين..
عبد الله، كان واحدا من الطلبة الذين نالوا شهادة العجازة، عفوا، الإجازة، برسم نفس الموسم الذي حزتُ فيه إجازتي. رفقته، عشت أيام الانتظار والتطلّع والتمنّي.. وفي المساء، كنا نلتقي تحت أشجار "الواحة"، لتجزية وقت كان لدينا منه فائضٌ كبير..
اتّفقنا، يوماً، على القيام بمحاولة تصيُّد فرصة عمل في العاصمة. تسلّحْنا برجاء أن نجد بين بناياتها ومؤسساتها فرصة بدا لنا إيجادُها في مراكشَ ضرباً من ضروب السراب!... لحِق بي إلى هناك. كنت قد سافرتُ قبله. كنت أقيم لدى أحد إخوتي يعمل هناك، ولأن أخي كان في رحلة عمل خارج البلاد، فقد رأينا أن يلحق بي لنخوض التجربة معا. في صباح اليوم الموالي، ملأنا محفظتينا بالكثير من النسخ المطابقة لأصول شهاداتنا الجامعية وصعدنا الحافلة المتوجهة من حي الفتح في اتجاه الرباط المدينة..
طفنا بين العديد من الوزارات. كنا ما إن نغادر مكتب الضبط في إحدى هذه الوزارات، حتى يتراءى لنا باب مؤسسة حكومية أخرى. نتبادل نظرة سريعة وكلمات مقتضبة ثم نفتح محفظتينا ونجلس في مكان ظليل، نختار الوثائق اللازمة لترْك ملف طلب العمل... كنا قد كتبنا، في وقت سابق، طلباتِ عملٍ لا تُحصى وحشرْناها بين أوراقنا، استعداداً لـ"معركة" البحث عن شغل.. وعندما نواجه بوابةَ وزارة من وزارات الرباط لم نكن قد خطّطنا لدفع طلب عمل لديها، كنا نبادر إلى إخراج أوراقنا ونكتب، على عجل، طلبَي عملٍ، إضافيّيْن..
57- تـاريـخْ وجُـغـْـرافـْيــا..
عبد الله "صديق" من طينة أخرى. بحضوره تتداخل كل المعطيات والوقائع لتُؤلّف.. اللحظة! عليك أن تعرف كيف تضع في الحسبان، في كل وقت، أن مُنتهى الجد قد ينقلب، على حين غرة، إلى لوحة ضاحكة، إلى نقيض ما ذكرنا عن الجِدٍّ... ولكي يكتمل المشهدُ، ضروري أن يكون إسماعيل في الطرف الآخر لـ"حكاياتهما"، التي لا تنتهي ومقالبهما المتواصلة، التي يصعب أن يُفلت منها المرء..
إذا أقدمتَ على مجلسٍ لهما ووجدتهما في حديث مع أي كان، فاعلم أن المسكين لا شك قد تهكّما عليه أو سيفعلان، إن عاجلا أو آجلا. بشكل أو بآخر، ينتهيان دوما إلى "تدويره".. أما إذا رأيتهما يحيطان بإحدى الفتيات -أحسن أنواع "الضحايا" بالنسبة إليهما- إذا فمن الأفضل لك أن تكتفي بالاستماع إلى ما يجري وتكون مستعدا لـ"مشهد" مضحك يُجسّدانه و"ضحيتهما" التي قادها إليهما قدَرُها، الـ"مسكين"..
ما كان يربطني بالاثنين، إلى جانب صداقة قديمة، بقايا تعاطُفٍ مع حزب "عتيد" كانت الأسماء التي رشحها لدخول "مغامرة" الانتخابات فين نهايات التسعينيات، بالخصوص، تحلم، ومعها كنا نحلم، بتحقيق تغيير في الممارسة السياسية.. بترك بصمة خاصة في مسلسل الانتقال الديمقراطي، الذي كانت تباشيره تبدو قادمة نحو المغرب، بخطى متثاقلة..
من حسنات زمننا أننا نشأنا، معظمُنا، على مبادئ وقناعات راسخة يصعب التفريط فيها بأي ثمن كان. صحيحٌ أننا لم ننْتمِ، ثلاثتُنا، إلى مؤسسة سياسية أو إلى منظمة معينة إلا أننا شاركنا، دون انتظار مقابل ما، في الحركية التي كانت تعتمل داخل المشهد السياسي حينذاك..
مع كل الخيبات التي "جنيْناها" من تضامننا" اللا مشروط ذاك، كانت الأيام التي أمضيناها ونحن نتطلّع إلى تغيير منتظََر لم تتّضحْ ملامحُه قَطّ جميلة. احتفظنا لتلك المرحلة البعيدة بمنزلة خاصة في تجربتنا الحياتية.. جميلٌ، أيضا، أن الحظ أسعف عبد الله، بعد ذلك، في العبور إلى الضفة الثانية، إلى نقطة أخرى من الجغرافيا، ليصنع "تاريخه" الخاص! لقد قاده قدرُه إلى أن يعيش تجسيدا حيّا لثنائية تاريخ -جغرافيا التي كانت الشعبةَ التي تابع تحت اسمها سنواته الأربع داخل جامعة القاضي عياض..
58- يُشْـتـرَط في المُتـرَشّـِح أنْ..
دفعنا أوراقنا لـ"كونكورات بْلا عدد"! بعد الجولة التي قمنا بها بين وزارات الرباط ولم تسفر عن أي نتيجة تُذكر، عدنا إلى مراكش بخيباتنا الكثيرة وبجيوبنا الفارغة..
تحت ظلال أشجار "الواحة" كنا نستفيء ونتربص للفتيات ولفرص التشغيل كلما لاحت إحداها في أفق انتظارنا. في تلك الأيام البعيدة، كانت حظوظنا في الظفر بإحدى "الدّْريات" تفوق بكثير حظوظَ كسب ودّ إحدى فرص الشغل، رغم كل المجهودات التي كنا نبذلها خلال التهييء لتلك المباريات وأثناء إجرائها..
في بعض هذه المباريات، خصوصاً تلك التي كانت تجري في عاصمة البلاد والتي تتعلق بتوظيفات "محتمَلة" في أسلاك عليا في سلَّم الإدارة، كانت إطلالة واحدة على اللائحة النهائية "للمحظوظين" الذين "حالفهم" الحظ في النجاح كافيةً لأن تعطينا فكرةً واضحةً على الطريقة التي يتم بها التحكُّم في مجريات مباريات التوظيف تلك!..
شروط أخرى، مغيَّبة عن "لائحة الشروط" التي تُرفَق بإعلانات مباريات التشغيل، كان عليهم أن "يصرٍّحوا" بها، علناً، ليرحمونا على الأقل من تلك الدراهم التي كنا نصرفها على الوثائق والنُّسخ التي كان يتطلّبها كلُّ ملف على حدة من ملفّات الترشُّح لاجتياز "كونكورات" لم يكن "ينجح" فيها إلا "المحظوظون" حقاً، خصوصاً منخم مَن لم يكونوا "يُشرِّفون" "منظِّمي" هذه المباريات ولو بحضورهم!..
59- لـْمْـنـارة، لـْعْـرصة، أكـْـدالْ.. النـّـْـزاهـة
الفضاءات الخضراء في مراكش، قصةُ عشقٍ أبديّ. نمطُ حياةٍ تسير على إيقاعات بطيئة اعتاد المراكشيون وتيرتَها وألِفوا تفاصيلها البسيطةَ، التي تصنع جزءا من تاريخ بلد آمن وجميل اشتهر سكان المدينة الحمراء بين بقية أهله بكونهم أبناءَ مدينة "البهجة"..
من حين إلى آخر، كنا نُعِدّ العُدّة ليوم نقضيه بعيدا عن جدران البيوت الصارخة تحت وطأة الحرارة، الرتابة وتَشابُهِ تفاصيل الأيام المتلاحقة. عرصاتٌ كثيرة وبأسماء موغلة في القدم وفي التاريخ. حدائق ومتنزَّهات داخل المدينة وفي تخومها المحيطة..
"المنارة" كانت نموذج هذه العرصات وهذه المتنفسات الخضراء، التي تتقاسم جغرافيا المدينة الحمراء..
"النّْزاهة" خرجة نحو الطبيعة، هروبٌ من صهد المدينة، القياسيّ إلى فضاء أرحبَ قد تعبُره نسمة لطيفة. النزاهة تقليد يقال إن للصناع التقليديين دورا كبيرا في تكريسه والحفاظ على استمراريته. كان صناع مراكش التقليديون يمضون أسبوعهم مُنكبِّين على إبداع تُحفهم الفنية النفيسة التي يشتغلون عليها في دكاكينهم، المتلاصقة، داخل الأحياء العتيقة المحاذية للساحة المشهورة.. في أيام عطلهم الأسبوعية، دأب هؤلاء الصناع على الحجّ إلى عرصات المدينة، مرفوقين بـ"طنجياتهم" وببقية مُستلزَمات نُزْهتهم الأسبوعية... هذا ما يحكيه تاريخ المدينة، الشفوي عن عادة الخروج إلى النّْزاهة، الذي توارثتْه أجيال عن أجيال..
خالد، أو "التحفاوي" كما كنا نطلق عليه، كان المحورَ الذي تدور حوله كل خُططنا وبرامجنا كلما فكرنا في تنظيم واحدة من تلك الخرجات. أمام بطالتنا وعطالتنا، القسرية، التي كانت تحكم على جيوبنا أن "يُصفِّر فيها الريح" في أغلب الأحيان، كان "السّي التحفاوي" يتكلف بالنسبة الكبرى من تكاليف الميزانية التي تتطلبها "خرجاتنا". في أحيان أخرى، كان يتكلف بكل المصاريف.. بعفويته وتلقائيته وعشقه الكبير الأجواءَ الجميلة التي كانت تًُحيط بلحظاتنا تلك، كان عنصرا لا يمكن الاستغناء عنه في مثل تلك الجلسات الرائعة..
حدائق "أكدالَ"، القريبةُ إلى محلات سكنانا، كانت وجهتَنا المفضَّلة، كلما قررنا الالتفاف حول "طنجية" سارت بذكر لذائذها الركبانُ على امتداد ربوع المملكة..
عند المساء، كنّا نقفل عائدين إلى ديارنا، وقد خفـّت الحرارة وبدأت تهُبّ نسماتٌ باردات. ندلف إلى بيوتنا. نخلو بأنفسنا. يعود الانتظار ليتسيّد على الأفق، ونحن نفكر في مصائرنا المُعلـَّقة. تسير العجلة وتسير إلى الأمام، بلا توقف. وحدها تطلعاتُنا والأماني الكبيراتُ تراوح مكانها، عصيّةً على التحقـُّق، إلا في أحلام ليالينا الجامحة..
60- في غيـّاب البَـدائـلْ..
في وضع سليم، وربما في بلدان أخرى، كان المفروض أن تسعى الدولة إلى استقطاب خِرّيجي جامعاتها وتُوفّر لهم مناصبَ شغلٍ يُساهمون، من خلالها، في نماء البلاد ومواصلة السّير بها نحو الأمام. في مغربنا الحبيب، لم يكن بمقدور الوظيفة العمومية المحكومة، بإكراهاتها العديدة، أن تستوعب كل تلك الأفواج المتعاقبة التي تطرُدها جامعاتها، بنهاية كلِّ موسمٍ، خارجَ أسوارها، متأبِّطين شهادة ما عادت تُسمن أو.. تفتح باباً..
كما غالبيةِ الشباب الحالم بالعبور إلى الضفة الأخرى، راسلْنا جامعات كثيرة، فرنسيةً بالخصوص. كانت هذه الجامعات لا تتأخر في الرد علينا وفي تزويدنا بكل التفاصيل، ومنها شروط قبول طالب للدراسة بين جدران بناياتها. كان أصعبُ شرط هو ذاك المتعلق بضرورة وجود شخص أو عائلة فوق التراب الفرنسي بإمكانها توفير سكن للطالب هناك، وقادر (ة) على "ضمانه"، بالالتزام بمدِّه بقدْر محترَم من النقود على رأس كل شهر..
عند "عقبة" الضمانة والسكن، كان الكثيرون منا يستسلمون ويتخلَّوْن عن سباق الهجرة إلى الشمال... بعض المحظوظين منا استطاعوا، مع ذلك، عبورَ المتوسط، ليستقروا في أحد البلدان الأوربية، تحت مسمى متابعة الدراسة، وإنْ كان السوادُ الأعظم منهم لا يعتبرون الدراسة أولوية ويتخذونها فقط قنطرةً للانتقال إلى الضفة الشمالية، حيث يستطيعون أنْ "يْدبّرو" على روسْهومْ" ويصنعوا "تواريخَهم الخاصة..
حالف الحظ الصديق، ماوكلي وآخرين غيرهما. شخصيا؟! توقفتْ محاولاتي، في كلَّ مرة، عند حاجز غياب "كفيل" قادر على استقبالي على تراب الجمهورية. عندها، توقفتُ عن التفكير في ذلك الاتجاه وبدأتُ أستسلم لقدَر البطالة، المتربّص عندما.. صادفتُ إعلاناً في إحدى الجرائد عن إجازة "مُطبَّقَة" تعلن عنها جامعة محمد الخامس في الرباط. كان منشور الإعلان عن المباراة يتحدث عن "إجازة مطبقة في علوم وتقنيّات الكتاب". قلتُ لنفسي إنها فرصتي لتعميق مداركي في هذا الاتجاه، خصوصا أنّي أعشق كل ما له ارتباط بالكتاب والكتابة..
تقدمتُ بطلب المشاركة في المباراة لأتوصل برد بالموافقة، بعد أيام.. اجتزْنا امتحانا كتابيا في الصباح، وبعد زوال نفس اليوم، امتحانا شفويا، اقتصر على بعض الأسئلة حول الدوافع التي جعلت كل واحد منا يختار هذه الشعبة، وما هي المؤهلات الإضافية التي دفعتْه إلى هذا الاختيار، ثم أين سيقيم، إنْ هو نجح في "الاختبار"، خصوصا أنه في السّنتيْن (هما مدة الدراسة) لن يحصل الطالب على "منحة" ولا "مِحْنة"!..
تابعوا معي الجزء الثاني (61 إلى 101) عبْـر هـذا الـرّابط
http://boutmouzzarabderrazak.blogspot.com/2011/12/blog-post.html
واقرؤوا الجزءين معا على هذا الرابط
https://sites.google.com/site/ada3ounini/
تألــيف وإخـْـراج: عبد الـرزّاق بـوتمُـزّار
دفـْتـَر الـذكـْرَيــات.. لـَنـَا الـمُـدوَّنة
RépondreSupprimerje viens de finir de lire la page 26 JE me régale l'ami ,
RépondreSupprimerLe plaisir, tout grand, est à moi de lire de si beaux mots, mes saluts les plus distingués..
RépondreSupprimerما معنئ مترهلة من فضلك
RépondreSupprimerمعركة حامية تندلع بين الكلمات والجُمَل والتّراكيب حول من منها بالبقاء على صفحة الورقةالأجدرُ
RépondreSupprimerj'ai aimé la situation mais je n'ai pas compris la fin
merci de me'expliquer
تحياتي.. المـترهـِّلة هنا يمعنى متقادمة، مـُغـْبـَرّة من قـِدَمِها وعدم تجدّدها لمواكبة البرامج التعليمية في باقي أنحاء المعمـور
RépondreSupprimerحين يجلس ماتب لكي يكتب، تتسارع وتتصارع الأفكار في دماغه.. تدور "معركة" شـرسة بين هذه الكلمات والتعابير التي يكتبها.. فمن أجل بقاء كلمات في الصيغة النهائية للنص، تيمضي الكاتب لحظات طويلة في التوفيق والاختيار بين الكلمات والتعابير التي تستحق أن تبقى في نصه النهائي وبين تلك التي عليه شطبها أو تعديلها.. أرجو أن يكون المعنى قد اتـّضح.. المقصـود
RépondreSupprimerكلمة "ماتب" أقصد بها "كاتب".. سقط سهوا
RépondreSupprimerتيمضي = يمضي
RépondreSupprimer